■ الكاتبات والوحدة
كتاب جميل من الأدب اللاروائي، يتتبع رحلات حياتية مربكة لعدد من الكاتبات، والسمة السائدة في الكتاب هي "الوحدة" بأشكالها المختلفة.
الشعور بالوحدة ليس شعوراً تختص به هؤلاء الكاتبات فقط وليس شعوراً يخص المرأة وحدها، ولكنه شعور يخص الإنسان، إمرأة و رجل.
الرجال أيضاً تؤلمهم الوحدة وتخيفهم، يشعرون ببرودتها وثقلها، وترهبهم أوجاعها، ربما كان المجتمع أكثر دعماً للرجل بشكل من الأشكال، ولكن ربما تكون المرأة أكثر قدرة على التحمل.
الكتاب مفعم بمشاعر متنوعة يمتزج فيها الشجاعة والخوف، التعاطف والتساؤل، الانعكاس والإسقاط، الاستبطان والارتداد، الانفعال والتفاعل، كانت قد قررت الكتابة لأن "للكتابة فعل التطهير في نفسي" كما قالت.
المجال لا يتسع لمراجعة كاملة، لذا سأكتفي بتسجيل انطباع عن كل فصل ..
● في أثر إيمان مرسال وعنايات الزيات
○ (الرفض = الوحدة)
عنايات الزيات الكاتبة التي انتحرت وحيدة، بحثت نورا عن أثرها فلم تجد، وأخيراً وجدته عند الكاتبة "إيمان مرسال" في كتابها "في أثر عنايات الزيات"، ..... هل الدنيا صغيرة إلى هذا الحد حتى تَصْدُق النظرية التي تقول "إن هناك سبعة أشخاص بين كل شخصين في العالم، سبعة يقفون في الطريق بينهما، سبعة معارف، شخص يعرف شخصاً يرى شخصاً يعرفه" وهكذا.
● ڤاليري سولاناس: عندما تخذلنا الكتابة
○ (التجاهل = الوحدة)
ڤاليري سولاناس الكاتبة التي كرهت الرجال، وأطلقت النار على أحدهم وهو يبدو أنه صاحب أقل أذى تعرضت له ڤاليري، تقول نورا "لماذا اختارت وارهول بالذات لتحقيق انتقامها من جميع الرجال؟ أعتقد أن ڤاليري لم تشعر بإهانة أكبر من إهانة التجاهل"، ..... هل أذى التجاهل فاق عندها كل الأذى والأضرار الأخرى، أم أنه كان القشة التي قصمت ظهر البعير والشرر الذي أشعل النار من تحت الرماد.
● ميّ زيادة: لعنة الجمال والموهبة
○ (الفقد = الوحدة)
ميّ زيادة الروائية والشاعرة التي عاشت بالكتابة ومن أجلها، والباحثة عن الكمال، والتي التف حولها أشهر أدباء عصرها، تقول نورا "إن الموهبة نعمة ولعنة في نفس الوقت، والذكاء الحاد لا يسبب لصاحبته سوى المشكلات"، ..... امتلكت كل شيء وفقدت كل شيء، والشيء الوحيد الذي عاد إليها وبقي لها هو لقب "الأديبة" المكتوب على قبرها.
● إيلينا فيرانتي: التخلص من ذنب الأمومة
○ (الشعور بالذنب = الوحدة)
إيلينا فيرانتي الكاتبة المختبئة عن الناس، التي عاشت بشعورها بالذنب على فقد ابنتها، تقول نورا "تمنحنا الشعور بالارتياح بأن ثمّة مَن يشعر مثلنا بهذه المشاعر، وأننا لسنا أشخاصًا سيئين، لا تهم الأسماء مقابل تعاطفنا مع الآخرين، من أجل كسر التابوهات المسكوت عنها، والتخلص من الذنب الدائم، ذنب كوننا بشراً"، ..... فهل علينا أن نحمل ذنب كوننا بشراً أم نرتاح بفسحة كوننا بشراً، لا يملكون من أمرهم في العالم القاسي شيئاً.
● نوال السعداوي: العزلة ضريبة التمرد
○ (التنافر مع السائد = الوحدة)
نوال السعداوي كاتبة وطبيبة، خاضت الكثير من المعارك ضد السائد من التخلف والجهل، تقول نورا "قوة المرأة تُخيف أشجع الرجال"، ..... قوة المرأة هي قوة الحياة، وبعض طموحات نوال السعداوي للمرأة تحققت، يجب إزالة باقي العقبات، وأولها أن تكفَّ النساء عن التفكير بطريقة أكثر ذكورية من الرجال، أن يَتَوَقفن عن حراسة السجن الكبير، أن يفهمنَ أنهن سجينات لا سجَّانات، كانت نوال السعداوي مبحرة عنيدة ضد تيار اللعنة، ومحاربة عتيدة لا تلين في معركة الأنوار.
● سوزان سونتاج: الهشاشة خلف جسد زجاجي
○ (الاستبصار الزائد = الوحدة)
سوزان سونتاج كاتبة ومخرجة وناشطة سياسية، رسمت لنفسها صورة القوة والفظاظة لتخفي الهشاشة، تقول نورا "الصدمات التي عانت منها سوزان سونتاج كانت كافية بالفعل لإفقاد أيّ شخص توازنه"، ..... أحياناً تضطرنا حرقة الشمس إلى تغطية رؤوسنا، ويضطرنا قبح العالم إلى تغطية نفوسنا.
● أروى صالح: الوقوف على ناصية الحلم
○ (الصدق والنقاء = الوحدة)
أروى صالح كاتبة ومناضلة ماركسية، انتحرت بعد معاناة من الزيف والصدمات، تقول نورا "فقدت أروى طعم الحياة إذاً، لماذا يمكن أن يعيش الشخص حياته بدون هدف، بدون شيء يمكن أن يستيقظ من أجله"، ..... يجب علينا أن ندرك الفرق بين الأحلام والواقع، فالأحلام جميلة ولكن الواقع فقط هو الذي هنا، وعندما نُحَلِق برؤوسنا في سماء الصدق والنقاء يجب أن نربط أقدامنا بحبل متين ونثبته في صخرة ثقيلة على أرض الزيف والالتباس التي نعيش عليها، لأن فيها واقعنا.
● رضوى عاشور: الأستاذة في التنكر
○ (إحساس المسؤولية = الوحدة)
رضوى عاشور كاتبة، تحمل مسؤولية العالم، الوجه الآخر للوحدة، تقول نورا "ثقل رضوى، حزنها أو اكتئابها، لم يكن مرتبطًا بحياتها الشخصية قدر ما هو مرتبط بالأحداث العامة"، ..... أحياناً يتضخم إحساسنا بالمسؤولية عن كل شيء، ونشعر بالأسى عندما لا يتحقق ما نراه واجب التحقق، ربما كان العالم يمشي بقوانين مختلفة، ويتغير بإيقاع خطى مغايرة لما نظن، حياتنا هي لمحة قصيرة جداً في حياة العالم، ربما الأصوب أن نفهم العالم ونتعامل معه كما هو، ونحافظ على أفضل نسخة منه حولنا، ولا بأس من محاولة الدفع قدر طاقتنا في الاتجاه الصحيح.
● ڤيرچينيا وولف: النظر صوب الحياة والموت
○ (اللا اطمئنان = الوحدة)
ڤيرچينيا وولف كاتبة، تجمعت فيها لمحات من كل من سبقنها في فصول الكتاب، انتحرت غرقاً، تقول نورا "كانت تملك هذا النوع من الاستبصار الذي يجعلها ترى حياة المرء كاملة بمجرد النظر إلى وجهه"، ..... تذكرت فيلم "القليل من الرجال الجيدين" لتوم كروز (الملازم) وجاك نيكلسون (العقيد)، أثناء التحقيق عندما سأل العقيد الملازم "ماذا تريد" فأجاب الملازم "أريد الحقيقة" فرد العقيد بغضب "لن تستطيع تحملها"، ثم استطرد العقيد وهو في قمة انفعاله "لديك رفاهية ألا تعرف ما أعرفه"، الحقيقة صعبة، ولا يتحملها أغلب الناس، فلنحيا ما هو موجود ولنخلق له المعنى.
انتهى الكتاب ولم تنته المعاناة، تقول نورا "وحدتهن أحاطتني كحلقة أمان، كشرنقة دافئة، اكتشفت نفسي مرة أخرى، وأعدت النظر في تفاصيل كنت أحسب أنني نسيتها، اعترفت بأشياء لم أجرؤ على التصريح بها، وتفهمت لحظات ضعفي وحزني وقسوتي، تعاطفت مع جانبي المُظلم، وتمكّنت من إدراك معنى جديد للحياة…""
أحسَنْتِ في امتلاك زخم الحياة وصَدَقْتِ في إدراك معناها، فالزخم يُلبِس العدم ثوب العبث، والمعنى يُلبِس العبث ثوب الوجود، والوجود هو أصل الحياة وغايتها.
مهما تشابهت بعض الملامح فلن تتشابه الوجوه، ومهما تماثلت بعض النغمات فلن تتماثل الأغنية، ومهما تطابقت بعض المفردات فلن تتطابق القصيدة، ومهما تكررت بعض المقاطع فلن تتكرر الرواية، هذا هو قانون الحياة.