انحسرت دولة الخلافة في خمس مدن لا تتعداها، هي قرطبة وإشبيلية ونبلة وأكشنبة وباجة. أمام هذه الفواجع قرّرتُ أن أغادر قرطبة، رغم أن سليمان المستعين كان رجلا هادئا كريما أديبا شاعرا، إلا أن قوّاده وجيشه لم يكونوا بمثل أخلاقه. ومن بديع شعره قصيدة عارض بها قطعة للخليفة هارون الرشيد حين يقول:
ملك الثلاث الآنسات عِناني ......... وحللن من قلبي بكل مكان
ما لي تُطاوعني البرية كلها ......... وأطيعهنّ وهنّ في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ......... وبه قَوِينَ أعزّ من سلطاني
فقال في المعنى نفسه سليمان:
عجبا يهاب الليث حدّ سَناني ....... وأهاب لحظَ فواترِ الأجفان
وأُقارع الأبطال لا مُتَهَيّبا ......... منها سوى الإعراضِ والهجران
وتملّكت نفسي ثلاث كالدمى ............ زُهرُ الوجوه نواعم الأبدان
لقد كان سليمان يطمح لأن يصبح مثل هارون الرشيد رغم أن هذا عبّاسي، وهو أموي مرواني، والعداوة بينهما متّصلة، لكن حب الأدب وطموحا خفيا في أنّ من يملك ثلاث أوانس مؤشّر على أنه كان يطمح لأن يملك كما ملك هارون الرشيد من قبله، بل لعله كان يحلم أن يملك كما ملك سَميّهُ سليمان عليه السلام الإنس والجنّ، ولهذا مدحه متنبّي وقته ابن درّاج القسطلّي بقوله:
سَمي الذي انقاد الأنامُ لأمره ........ فلم يَعْصه في الأرض إنسٌ ولا جانُ
لكن هذا الخليفة الأديب لم يكن رشيدا كما كان سلفه العبّاسي، ولا حاكما كما كان نبيّ الله سليمان. وكانت سنوات خلافته تزيد على ثلاث قليلا كالدمى الثلاث اللائي هام بهنّ. فلم يدم ملكُه لا لهذه ولا لتلك. ولم يستطع أن يدفع ظلم جيشه ولا جورَهُ. وأقصى ما كان بإمكانه أن يفعله، هو أن يخفف من غلواء هذا الظلم على أهل قرطبة. لكن رغم كل هذا، فإنه ظلّ في أعيُنِ القرطبيين مثالا للغاصب الزنديق الذي استعان بالآفّاقيين ونصارى الشمال ليغتصب عرش الخلافة.
طوق سر المحبة؛ سيرة العشق عند ابن حزم > اقتباسات من رواية طوق سر المحبة؛ سيرة العشق عند ابن حزم > اقتباس
مشاركة من المغربية
، من كتاب