ومع ذلك .. لم يشتك.
لم يفكر طيلة حياته أن يمد يده.. أن يطلب مساعدة.
على العكس، إن أسوأ ما فى عم "عطا".. غضبه، وأسوأ لحظات غضبه تلك التى يواجه بها مَن يحاول مساعدته، مَن تدفعه نيته الحسنة لأن يمد يده ببضع جنيهات ناحية يد عم عطا.
هنا، فقط، يصرخ ويتشنج، يلم حوله خلق الله، وهو يردد "أنت فاكرنى إيه؟ شحات"، وتصبح مهمة احتوائه صعبة .. صعبة جدا.
الواقع يقول، أن عم عطا، لم يعرف سوى صنع الحبال .. مهنة، لا يتجاوز مجموع أجرة منها، بأى حال من الأحوال، سوى ما يقرب من الـ 100 جنيه فى الشهر، المشكلة أن هذه الجنيهات القليلة مهددة الآن بالانعدام، بعد إصابة عينيه بالضعف، وعدم سماح الناس له من الحصول على "لوف" نخيلهم .
الآن .. تتراجع الـ 100 لتصبح
80
70،
60،...
إنها فى الطريق إلى رقم
صفر.
نجح الأستاذ دسوقى، موظف الوحدة المحلية، أن يقنع - أخيرا - عم عطا بقبول الجنيهات الشهرية التى يُمكن أن يحصل عليها من الشئون الاجتماعية، أقنعه أن مبلغ الـ 100 جنيها التى ستأتيه من وزارة التضامن .. ليست مَنـًّا عليه من الحكومة، لكنه حقه، ولا يعيبه أى شىء فى الحصول على هذا الحق.
صباحا.
والشمس تتسلل إلى الأرض فى استحياء، وقبل أن تمد أشعتها بالكامل، تجد عم عطا أمام بيته الطينى الذى ورثه عن والده، يجلس على المصطبة، بجوار كنكة شاى، ورغيف عيش شمسى، وكوب زجاج صغير .
إنه يفطر ..
إنه يعزم على مَن يلقى السلام عليه بأن يشاركه فطوره.. إنه يسأل المارة عن أحوالهم، أحوال أهاليهم، ربما عرف أن أحدهم مريضا .. فيقرر زيارته.
نسيت أقول لك .. كيف يعيش عم عطا، بدخل لا يتجاوز الـ 150 جنيها فى الشهر، بمزيد من الحمد والشكر، بقناعة تامة، برفض كامل لأى نظرة - مجرد نظرة - عطف.
الموضوع باختصار أن هذا الرجل السبعينى، ظبط معدته، ومن قبلها نفسه، على الحياة بالفول والعيش والشاى والسكر والمِش، ربما زاد عليهم .. مرة واحدة فى السنة، مرتين على الأكثر، "قشة" والتى تعنى رأس بهيمة .
كل 20 يوما يشترى 1/4 شوال دقيق، تخبزه له أخته على مرتين فى الشهر، كل مرة ينتج عنها 10 أرغفة عيش شمسى، ربما زاد العدد إلى 11 أو 12 .
من الدكان، يشترى 3 كيلو سكر و 1/8 شاى، ومن السوق يشترى "رفطاو" فول = 7 كيلو .
المجموع، فى الشهر يساوى، 100 جنيها.
الفطار .. عيش يُغمس فى الشاى، الغداء .. العيش يُغمس فى طبق المش، ليلا فى طبق الفول .
أحيانا، لا يجد عم عطا الرغبة فى طهى الفول وتدميسه، يكتفى هنا فقط، بأكله نيا بعد أن أصبح لينا قليلا نتيجة بياته فى الماء مما يسمح له، ما بقى من أسنانه، من الدخول إلى المعدة.
منذ زمن، كان عم عطا، يذهب منطلقا إلى أراضى الناس، حاملا على كتفه، منجله الكبير، ينظف النخيل من الجريد والكرنيف، ليأخذ هو اللوف ويترك باقى ما تجود به النخلة، لصاحبها .. لم يكن الأمر يحتاج منه استئذان .
لكن ..
بعد اعتراض واحد من الناس قرر .. أن يجلس فى بيته، حتى يتم طلبه، إنه مؤمن تماما بأن "اللى عنده كرامة .. أحسن من اللى عنده فدان أرض".
ومؤخرا، ضعف بصره، واهتزاز رجليه لم يعده يسمحا له بحتى تلبية طلبات الناس وتسلق النخيل، منذ زمن، وهو ينتظر أمام داره، لمن يأتى له حاملا اللوف، طالبا منه صناعة حبل .
الحبل الواحد يستغرق من عم عطا ثلاثة أيام، فى يومه الأول يضع اللوف فى الماء حتى يلين، فى الثانى يحوله إلى أجزاء صغيرة ملفوفة، وفى الثالث، وهو عمل اليوم الشاق، ينتهى من صناعة حبله، بمقابل 5 جنيهات، فقط لا غير.
مع كرامته، يمتلك عم عطا، خفة دم مذهلة، تبدأ من أن يناغشه أحد، ويستفزه بأن قوته .. راحت، ليقف عطا .. طالبا منه أن يواجهه، وعن المواجهة، التى لا تحدث، تتولد ضحكات الحاضرين .
خفة الدم .. تصل أيضا إلى المسألة الجنسية، حين يقترب منه أحد ليرفع جلباب عم عطا بسرعة كاشفا عن عورته، فهو لا يرتدى شيئا تحت الجلباب، ربما هذا ما جعله يتحول إلى نكتة قديمة وطويلة وممتدة المفعول أثناء تسلقه إحدى النخلات.
منذ أن أعلن عم عطا عن رغبته فى الزواج - مجرد إعلان - تحول السؤال عن العروسة التى يحلم بالارتباط بها، إلى سؤال بايخ يطارده باستمرار، أينما ذهب، سؤال قديم جدا .. قدم هذا الرجل.
المقربون، يعرفون، أن عم عطا اشترى كفنه، يحتفظ به فى بيته، اشتراه خوفا من أن يُقال عليه، بعد موته، أن فلان – أى فلان – اشترى له كفن، بل أصر أن يصنع 3 حبال مجانا لعبد العزيز الفحار، الذى يتولى مهمة الدفن والحفر، مقابل دفنه بعد الوفاة دون الحصول من أحد – أى أحد - على أجر.
لا يزال عم عطا يتنفس، لا يزال بنفس تركيبته القديمة، القديمة جدا، وكأنه يعيش فى حكاية من حكايات ألف ليلة، حكايته لا تختلف كثيرا عن حكاية الحطاب والصياد والتاجر الصغير، الفرق الوحيد بينه وبينهم، أنهم جميعا ارتبطوا ببنت السلطان، أما هو .. فـ لا.
لم يعد السلطان موجود، حتى نعرف له بنت، لكن عم عطا لا يزال يعيش .. رجل قديم، فى زمن ديجيتال!
الناس دول > اقتباسات من كتاب الناس دول > اقتباس
مشاركة من إبراهيم عادل
، من كتاب