[في ذكرى أمل دنقل]
واقفاً مَعَهُ تحت نافذةٍ،
أتأمَّلُ وَشْمَ الظلال على
ضفَّة الأَبديَّةِ، قُلتُ له:
قد تغيَّرتَ يا صاحبي .... وَانْفَطَرْتَ
فها هِيَ درّاجةُ الموت تدنو
ولكنها لا تحرِّكُ صرختك الخاطفةْ
قال لي: عِشْتُ قرب حياتي
كما هِيَ،
لا شيءَ يُثْبِتُ أَنِّيَ حيٌّ
ولا شيءَ يثبتُ أَنيَ مَيْتٌ
ولم أَتدخّل بما تفعلُ الطيرُ بي
وبما يحمِلُ الليل مِنْ
مَرَضِ العاطفةْ
أَلغيابُ يرفّ كزوجَيْ حمامٍ على النيل...
يُنْبِئُنا باختلاف الخُطَى حول فعل المُضارعِ....
كُنّا معاً، وعلى حِدَةٍ، نَسْتَحِثُّ غداً
غامضاً. لا نريدُ من الشيء إلاّ
شفافيَّةَ الشيء: حدِّقْ تَرَ الوردَ
أسوَد في الضوء. واُحلُمْ تَرَ الضوءَ
في العتمة الوارفةْ...
ألجنوبيُّ يحفظ درب الصعاليك عن
ظهر قلبٍ . ويُشْهُهُم في سليقتهم
وارتجالِ المدى. لا ((هناك)) له،
لا ((هنا)), لا عناوينَ للفوضويّ
ولا مِشْجَبٌ للكلام. يقول: النظامُ
اُحتكامُ الصدى للصدى. وأَنا صوتُ
نفسي المشاع: أَنا هُوَ أنتَ ونحنُ أَنا.
وينامُ على دَرَج الفجر: هذا هو
البيتُ، بيتٌ من الشعر، بيتُ الجنوبيِّ.
لكنَّهُ صارمٌ في نظام قصيدته . صانعٌ
بارعٌ يُنِقذُ الوَزْنَ من صَخَب العاصفةْ
ألغيابُ على حاله . قَمَرٌ عابرٌ فوق
خُوفُو يُذهِّبُ سَقْفَ النخيل. وسائحةٌ
تملأ الكاميرا بالغياب، وتسأل: ما
الساعةُ الآن؟ قال لها: الساعةُ
الآن عَشْرُ دقائقَ ما بعد سبعةِ
آلاف عامٍ من الأبجديَّة. ثم تنهّد:
مِصْرُ الشهيّةُ، مِصْرُ البهيَّةُ مشغولةٌ
بالخلود. وأَمَّا أَنا...فمريضٌ بها، لا
أفكِّرُ إلا ّبصحّتها، وبِكسْرَة خبزِ
غدي الناشفةْ
شاعرٌ’ شاعرٌ من سُلاَلَة أَهل
الخسارة, واُبنٌ وفيٌ لريف المساكينِ.
قرآنُهُ عربيٌّ، ومزمورُهُ عربيٌّ، وقُرْبَانُهُ
عربيٌّ. وفي قلبه زَمَنانِ غريبان،
يبتعدان ويقتربان: غدٌ لا يكفُّ
عن الاعتذارِ: ((نَسِيتُكَ، لا تنتظرني))
وأَمس يجرُّ مراكبَ فرعونَ نحو الشمال:
((انتظرتُكَ , لكنْ تأخرتَ)). قُلْتُ لَهُ:
أَين كُنْتَ إذاً؟ قال لي: كُنْتُ
أَبحث عن حاضري في جَنَاحَيْ سُنُونُوّةٍ
خائفةْ...
أَلجنوبيُّ يحملُ تاريخَهُ بيَدَيْهِ، كحفنة قمحٍ،
ويمشي على نفسه واثقاً من يسوع
السنابل. إنَّ الحياةَ بديهيَّةٌ... فلماذا
نفسِّرها بالأساطير؟ إنَّ الحياة حقيقيّةٌ
والصفاتِ هِيَ الزائفةْ
قال لي في الطريق إلى ليله:
كُلَّما قُلْتُ: كلاّ. تجلّى لِيَ اللهُ
حريَّةٌ... وبلغتُ الرضا الباطنيَّ عن
النفس. قلتُ: وهل يُصْلِحُ الشعرُ
ما أفسد الدهرُ فينا وجنكيزخان
وأحفادُهُ العائدون إلى النهرِ؟
قال: على قَدْر حُلْمكَ تَتَسع الأرضُ.
والأرضُ أمّ المخيّلة النازفةْ
قال في آخر الليل: خذني إلى البيتِ،
بيتِ المجاز الأخيرِ...
فإني غريبٌ هنا يا غريبُ،
ولا شيءَ يُفْرحُني قرب بيتِ الحبيب
ولا شيءَ يجرحني في ((طريق الحبيب)) البعيدةِ
قلت: وماذا عن الروحِ؟
قال: سَتَجْلسُ قُرْبَ حياتي
فلا شيءَ يُثْبِتُ أنِّيَ ميتٌ
ولا شي يثبتُ أنِّيَ حيٌّ
ستحيا, كما هِيَ
حائرة آسفةْ...
🍂🌿
- محمود درويش
- قصيده بيت من الشعر الجنوبي
مشاركة من Mohamed Khattab
، من كتاب