وقتها كان يسمح لي أبي بالترجل في مكة والتأمل.. لكن محظورٌ عليّ مصاحبة الأصدقاء والانخرط معهم في مجالسهم كما يفعل هو.. أقنعني أنه مجبر على ذلك حتى تزدهر تجارة الأحذية
أما أنا فعليّ أن أحافظ على عزلتي قدر المستطاع.. لم يعرف عني أحد غير أنني ابن الإسكافي الغامض.. والتزمت أنا بتلك المسافة بيني وبينهم.. بالأخص سر الخلود الشمسيّ.. لم أفصح به
لأحد.. ليس فقط بسبب الالتزام بعهدي لوالدي بالكتمان.. ولكن لكون مثل هذه القصة ستصمني ووالدي بالجنون الحتميّ وربما يقذفوننا بالحجارة سخريةً منا.. فمن يصدق أن أحدًا من البشر يعيش أبدًا في شمس لا تغيب.
السكون يعم المكان.. انفضت الناس إلى بيوتها وقليل من يخرج منهم يحملون المشاعل.. إنه ليلهم وسط نهاري.. ترجلت عند أحد الغرانيق ودققت النظر إليه.. ضحكت ساخرًا:
--كيف حالك أيها الحجر الأصم؟
صفعت وجهه الحجريّ بيدي.. بدوتُ كالمجنون.. لم يلاحظ أحد ذلك.. عدت إلى البيت ولكنني لم أدخل.. التففتُ وراءه لأقابل صديقي الوحيد.. من يعرف عني كل شيء.. من حفظ سري.. جوادي الحبيب.. فرس عربي أصيل ممشوق القوام.. الجواد عبد الرب.. هكذا سميته منذ أن
اشتريته من سوق عكاظ منذ عدة سنوات.. ربت على ظهره واحتضنته:
--عمت مساءً يا عبد الرب؟
تأكدتُ أن مياه الأمطار لم تصل إليه تحت سقف من خشب الدوم وجريد النخل يمتد فوقنا في خلفية البيت.. أشعلتُ بعض الحطب وجالسته.. تنهدتُ:
--أتعلم يا صديقي أنني مُعذب؟ نعم.. تخيل أنني أعيش إلى الأبد هكذا وحيدًا.. الخلود الشمسيّ!
أخبرك سرًا.. هذا الخلود كاذب.. لقد مات العم سيجانوس وهو يتمتع بهذا الخلود.. لا تكن مثل أبي الّذي يهرب من تلك الحقيقة.. سيأتي يومًا ينتهي ذلك الخلود لسبب ما.. هذا الكتاب ملعون.. كتاب هيبنوس.. ترى ماذا كان يحوي في داخله؟ أطلاسم حقًا؟ أم ماذا؟
أمسكت ببعض من ورق البردي وأقلامٍ من الفحم صنعها لي والدي بعدما تعلمت الرسم على يديه.. يبدو أن جينات الرسم قد انتقلت من الجد أوخوس الّذي رسم بيديه صورة لزوجته الأولى
بجوار كلمات تصفها في كتابه يوميات أوخوس الّذي حكى ليّ أبي عنه ومنه إلى أبي غالب وارثًا نفس الموهبة فطالما رأيت وجوه من الماضي ينبض فيها قبس من الحياة على أوراق البردي معلقة في غرفته.. فهذا العم سيجانوس وهذه أمي فستال الساحرة الجمال وهذه جدتي وهذه ساحات روما وغيرهم من اللوح الّتي حرص غالب على الإحتفاظ بها بعيدًا عن جوقة
أصدقائه المزيفين.. لم يرها غيري.
#أبواب_هيبنوس
#عمرو_البدالي
#ن_للنشر_والتوزيع
مشاركة من عمرو البدالي
، من كتاب