إنّ مزاجي مرتبط بالخبز على الدوام. لم أرتبط بأيّ شيءٍ آخر في حیاتي بأكملھا كما فعلت معه. في أیّام المعسكر كنتُ أتعذّب لابتعادي عن أرغفتي في الكوشة. كنتُ سیّئ المزاج بعد ذلك، لفقداني الرغبة في التواصل معه مجددًا. حتّى الأیّام التي تلحق محاولاتي الفاشلة في صنع رغیفٍ جدیدٍ، كانت سیّئةً وسخیفةً وغیر محتملةٍ. إذا دخلت المطبخ لأبدأ العجن، أصبغ مخاوفي، سعادتي، طموحاتي، مطامعي، رغباتي، حزني، كآبتي، شھوتي، دموعي، شكوكي، لھفتي، اطمئناني، سكینتي، روعي، قلقي وجفافي في رغیفي الذي یتأثّر شكله بتلك المشاعر. الرغیف السعید مرحٌ، الرغیف الكئیب كجثّة قنفذٍ، الرغیف الخارج من سكینة یديَّ یخرجُ ھادئًا، یمتصّ الخبزُ مشاعري ویجسّدھا أمامي. كنتُ آكل رغیف الكآبة ناسیًا إضافة الملح إلیه، ورغیف الشھوة بملحٍ زائدٍ، ورغیف الشكّ قاسیًا وجلفًا. تأثّر اختیاري الرغیفَ الذي أعمل علیه بمزاجي العامّ، كما تأثّر عملي على الخبز بفصول السنة، ولھذا أعتبر أیّام تركي إیّاه لصالح البیتزا ھي أیّام الشباب، إذ ھربت من القریة إلى الظھرة، ولذلك أعتبر تذوّقي الخبزَ التونسيّ بدایةَ نكراني للخبز اللیبيّ أجمع، ومحاولة بدئي في إنتاج أرغفةٍ من العالم الآخر حتّى أعیش، ولو عبر لساني، ما یعیشه الناس في تلك البلاد. أذرع أزقّة باریس عند انكسار الباقیت في فمي، وأغطس في شطآن صقلیّة، بینما ألوك الخبز الصقليّ المليء بالسمسم. أشعر ببرد لندن القارص بعد أن أتذوّق خبز الریف الإنجلیزيّ الذي مرّرت علیه الزُبد ومربّى الفراولة، أحسّ بعبقِ القاھرة عندما یمرّ الخبز المصريّ في جوفي. تمرّ بي مشاعر الأبوّة، وتشتدّ على صدري، في كلّ مرّةٍ یخرج فیھا رغیفي ناضجًا وجمیلًا یدعوني إلى قضمه ، فأخاف من ھذه الفكرة، وأھرب من الخبز أیّامًا حتّى یخفت الطلب الملحّ على عقلي. أستمرّ في فعل ذلك حتّى ھذه اللحظة، وأنا أشاھد معك ھذه
الأرغفة، وھي تكبر وتنضج یلفّھا بخار الماء داخل الفرن. كانت الأبوّة حلمًا مرتبطًا بالخبز. لطالما أردتُ أن أطعم أطفالي ممّا أنتجه، أن أرى الحماس واللھفة في أعینھم، بینما یقفزون حولي ینتظرون أن ینضج خبزھم. أملأ لھم سندویتش المدرسة بالتونة والبیض والجُبن والطماطم والزیتون، فیذھبون إلیھا تاركین بصماتھم فیھا.
مشاركة من إبراهيم عادل
، من كتاب