طوال عهده كان الحنين للماضي حاضرًا بشكل قوى، وسخّر ميزانيات ضخمة بالفعل من أجل «بدونة» البلاد على شكل الطبعة الرومانسية التي اختارها هو شخصيًا للعيش في حنين ذاتي، للتعويض عن جرح دفين لم يبرأ بعد، وسيبقى النجع الذي شيّده قرب مسقطه، غير بعيد عن مسقط رأسه في بادية سرت، من أماكن إقامته المفضلة، حيث يستقبل فيه ضيوفه، ويمارس عمله الثوري، هناك بنى «نجعًا» على نمط سالف الأيام، حيث احتلت خيمة الشيخ «العقيد» الصدر، بينما انتظمت بقية بيوت الخدمة حوله على شكل حدوة حصان،(115)لم يترك مناسبة إلا وأكد فيها على «بدوية» ثورته، من حيث القيم والمبادئ ونظم الحياة، واعتبر دائمًا أن كل ما نتج عنه من أدبيات ومواقف ودعوات للتغيير إنما هو مساهمة الصحراء في الحضارة الحديثة، ومساعدة لها في الوصول للفردوس، وامتداد لذلك، لم يكن يشعر بالود تجاه المدن والعمران، وظل دائمًا مستغربًا من هذا المكون المعماري - الاجتماعي، الذي يتساكن فيه الناس دون أي معرفة سابقة ببعض، يسيرون في تلك الشوارع دون أن يتوقفوا ويتحدثوا مع بعض، وخصص ما يكفي من كتاباته لهجائها والسخرية منها، والحط من قدر ثقافتها، كانت الثورة ترفع شعارات التقدم والعصر، بينما كان كل شيء يتغنى بالماضي التليد، الخطب والأغاني والصحف، الفنون والأبحاث، وكل منبر متاح من مهرجانات ومناسبات اجتماعية وأعياد، لم تكن صور وأناشيد البدو وخيلهم وجِمالهم ونجوعهم تغيب يومًا عن التلفزيون، الذي استمر في ضخ ثقافة المحافظة على التقاليد والعادات «البدوية»، والفخر بالعِرْق باسم الأصالة، واتُخِذت تلك الصورة من الفلكلور الرديء مرجعًا ثقافيًا يعبّر عن روح البلد، وحُثَّ المواطنون على امتلاك تلك الصفات التي اعتبرتها الثورة من الأساسيات للانتماء للمحيط الذي صنعتْه، وعندما تولى «ابن عم» العقيد «أحمد إبراهيم» أمانة «وزارة» التعليم أحضر معه لافتة كبيرة ثبّتها على مدخل وزارته، لتبقى هناك لعقود تحمل أحد الشعارات المبكرة للثورة يقول: «انتصرت الخيمة على القصر، وكسرت عصا الراعي تاج الملك»، ومع الأيام صارت الخيمة نفسها موضوعًا شهيًا للإعلام، وتم إحياء هذه الصناعة بعد استخدام العقيد لمهاراته في التسويق والإشهار، إذ شرع كثيرون في نصب خيمهم اقتداء به، أو لتوضيح مكانتهم في النظام الجديد، وأصبحت بمثابة المكتب الرسمي الجديد للنظام، حيث كانت تُتخذ القرارات وتُحدد المصائر في مجلس العقيد، بينما يقوم أحد القيادات الأمنية الثورية بإعداد الشاي على النار في الطرف، تماما كما كان يحدث الأمر من قبل في خيمة الشيخ، لكن تلك الخيمة لم تكن فقط مظهرًا طريفًا يحتفل به الإعلام ورواة القصص، ولكنها كانت في الدولة الجديدة أسلوبًا إداريًا للعمل، يعتمد على التوجيهات الشفوية بدل القرارات المكتوبة، والأقرباء والمؤدلجين بدل الأكفاء من الأفراد
مشاركة من Enas Al-Mansuri
، من كتاب