هذا المَقرِيُّ يروي عن علي بن سعيد، عن والده، أن أهل قرطبة أشدُّ الناس عناية بالكتب، وأن أعيانها كان من مفاخرهم أن يقال: إن فلانًا عنده هذا الكتاب النادر، وإن ذلك الكتاب عنده دون الناس جميعًا.
وهذا خبر نأتي به، على طولٍ فيه، يُبينُ لنا كيف يكون الكَلَفُ بشراء الكتب وتحصيلها حتى عند الجاهلين، قال الحَضْرَمِيُّ: «أقمت مدة بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة أترَقَّبُ فيها وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط فصيح، وتفسير مَلِيح، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه، فيرجع المنادي بالزيادة عليَّ، إلى أن بلغ فوق حدِّه، فقلت له: يا هذا، أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوى! قال: فأراني شخصًا عليه لباس رياسة، فدنوت منه وقلت له: أعزَّ الله سيدنا الفقيه! إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك؛ فقد بلغت به الزيادةُ بيننا فوق حدِّه، فقال لي: لست بفقيه ولا أدري ما فيه، ولكن أقمتُ خزانة كتب واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فيها موضع يَسَعُ هذا الكتاب، فلما رأيته حسن الخط، جَيِّدَ التجليد استحسنته ولم أبالِ بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير! قال الحضرمي: فأحرجني وحملني على أن قلت له: نعم، لا يكون الرزق كثيرًا إلا عند مثلك! يُعطى الجَوْز مَن لا له أسنان! وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب وأطلب الانتفاع به يكون الرزق عندي قليلًا، وتحول قلة ما بيدي بيني وبينه"
مشاركة من نداء عودة
، من كتاب