عندما تقرأ رواية "بنات سخمت" للدكتورة دينا القمحاوي، تشعر كأنك انتقلت بالزمن، ولكنك لن تدرك ما إذا كان هذا انتقالاً إلى الماضي أم إلى المستقبل.
على غلاف الرواية أخبرنا العنوان الثانوي أنه ❞كلما ماتت سخمت ... ولدت سخمت أخرى في زمن جديد❝، فعرفنا أننا أمام حكاية بلا نهاية، هي حكاية البشرية في رحلتها مع الخير والشر.
ثلاث حكايات يتمايل فيها الشر راقصاً رقصة الحياة، بينما الخير يراقب ما يدور على استحياء.
في الحكاية الأولى ... كان الشر الذي عرفناه أسطورياً
في الحكاية الثانية ... كان الشر الذي عرفناه تقليدياً
في الحكاية الثالثة ... كان الشر الذي عرفناه حضارياً
1️⃣ "سخمت وحكايات الشر"
وجدنا التاسوع المقدس، وشهدنا رع وحتحور ونوت وأوزوريس والمبجلة إيزيس، وعشنا لحظات المحاكمة في كل مرة، وكنا نرقب ريشة الماعت وهي تطير عالياً في الهواء، والحكم بالعودة إلى الأرض مرة أخرى لإعادة التجربة، وعشنا كل حكايات بنات سخمت.
⚪️ في حكاية بنت سخمت الأولى "حتبت" وجدنا المادة الخام للأسطورة، وكانت اللغة تتماهى مع حالة حكي الأساطير، لغة بسيطة ذات عبارات قصيرة وفقرات رشيقة تقفز من جانب إلى آخر ونحن معها مستسلمون.
⚪️ في حكاية بنت سخمت الثانية "زهرة" وجدنا الأفكار والمواقف والمعتقدات الاجتماعية بتفاصيلها، وكانت اللغة تقارب الحكي الاجتماعي، لغة مُشَوِقة جذابة تدفعنا إلى تتبع الشخصيات والأحداث ونحن معها متلهفون.
⚪️ في حكاية بنت سخمت الثالثة "لاقيس" وجدنا الحاضر بثقله وصخبه، وكانت اللغة كاشفة لتعقيدات الحضارة، لغة محملة بمخاوف العصر واحباطاته ونحن معها حائرون.
ظلت شخصيات الحكايات الثلاثة تتوالد بالاستنساخ، في كل مرة تعود شخصيات الحكاية إلى الأرض لتعيش حكاية أخرى، وكانت الحكاية الثالثة تضج بلهاث نظرية المؤامرة، ظننا أن الشر وليد للعصر، لكن ليس في الأمر مؤامرة، فالشر قديم قدم الإنسان، بل قدم العالم ذاته، وفي كل مرة كان الأمل يداعبنا فنتمنى أن ينتصر الخير وينتهي الشر من العالم، لكن يبدو أن الخير والشر صنوان متلازمان، ولدا معاً وعاشا معاً، وسينتهيا معاً بانتهاء العالم.
2️⃣ "الثنائيات الأزلية"
الثنائية الأزلية هي ثنائية الخير والشر، "حتحور وسخمت" هما الحياة بازدواجيتها وتناقضها، هما التزاوج المحتوم بين النقائض:
هما "أوزوريس وسِت" عند التاسوع المقدس
هما "أهورا مازدا وأهريمان" عند زرادشت
هما "المزدوج" ياكوف جوليادكين عند ديستويفسكي
هما "الدكتور چيكل والمستر هايد" عند روبرت ستيڤنسون
هما "قسمتي ونصيبي" محمدين عند نجيب محفوظ
لا مفر من هذا التزاوج الحتمي، ربما علينا إعادة تعريف الخير والشر، ولا مفر لبنات إيزيس من مواجهة بنات سخمت.
3️⃣ "النماذج البشرية"
وجدنا في المحاكمات العلوية إدانة لكل الرذائل على اختلافاتها في نماذج البشر:
〰 ️الشر والأذى عند حتبت وزهرة ولاقيس
〰 ️الضعف والخوف عند هاميس ومريم وفريدة
〰 ️اللامبالاة والجفاء عند نويا ومصطفى وحسام
〰 اللااكتراث ️والرعونة عند الملكة وسعاد وجنة
〰 السلبية والاستسلام عند الفلاحة وفاطمة وأحلام
كما وجدنا أيضاً الشر المجاني عند كاريتا وستوتة وهيلينا
في كل مرة كانت المحاكمة العلوية تُدين الجميع، ليس فقط بنات سخمت (حتبت وزهرة ولاقيس)، لكن الكل مُدان، من جلب الشرور أو من تهاون معها بالضعف أو من تجاهلها باللامبالاة أو من تماهى معها باللااكتراث أو من استسلم لها بالسلبية، الكل مسؤول عن تلك الشرور التي تملأ العالم.
وفي النهاية تركتنا الكاتبة في انتظار الحكاية القادمة، تركتنا نتساءل عن ابنة سخمت الجديدة "ليليث" وكيف ستكون، بعد أن ذهبت الروح الشفافة لتحوم في ملكوتها الخاص، داعبنا الأمل مرة أخرى في أن بقية بنات إيزيس سوف ينتصرن، بعد أن أخبرتنا الكاتبة أن ❞هذه الرواية بلا نهاية، لأن الصراع بين بنات سخمت وبنات إيزيس صراع أزلي، تتغير صورته بمرور الأجيال، ولا أحد يعرف على أي صورة ستتشكل بنات سخمت في الأجيال القادمة❝