"هل هناك نسخة من الحياة لا تشعر فيها أن شيئاً ما مفقود؟ هناك دائماً شعور بالفقد؛ لأنه ببساطة شعور صحيح، كل اختيار في الحياة يستبعد خيارات أخرى، الأمر بهذه البساطة، لا يُمكن مراوغة الفقد، الحياة فقد متتالٍ، وامتلاك مؤقت."
قرأت "لن نصنع الفلك" لبلال علاء، مرتين، في المرة الأولى وجدته عملاً جيداً، في المرة الثانية وجدته عمل إستثنائي، فالكاتب يمتلك موهبة الكتابة والتعبير والوصف، تلك المشاعر التي لا يُمكن أن تُختذل في كلمات، يصفها بدقة وبدفأ، والأهم من كل ذلك بطمأنينة واضحة، كانت القراءة الثانية لـ"لن نصنع الفلك" مُشجعة كفاية أن أقرأ أي شيء يكتبه "بلال علاء" مهما كانت تلك الجملة حرفية، فتحمست عندما علمت بروايته الجديدة "عم نتحدث حين نتحدث عن الصداقة"، أول ما وجدت نفسي أقوله: هل تحتمل الصداقة أن نكتب رواية عنها؟ أعرف أن هذه التساؤل يُقلل من شأن الصداقة وقيمتها، ولكن الصداقة الحقيقية في العصر الحديث نادرة، ولا يوجد قالب أو تعريف يُمكن أن نُحدد به فعلة الصداقة، بل قد تكون بعيداً عن أصدقاءك لفترات طويلة وتظل صديقهم، في ظل التطور التكنولوجي الذي ساعد في ذلك، فهل تُعد ذلك صداقة؟ وفكرة الطمأنينة المُنبعثة من كل جانب للآخر لأنه فيه ما يُكفيه! فماذا عند "بلال علاء" ليُضيفه عن الصداقة؟
"ومهما كنت متسامحاً مع الطبيعة البشرية، فهناك حقيقة أن الناس عموماً لن تستثمر وقتها مع شخص يعترف بالتحطم، إلا في حالات قليلة، حين تكون جوانب شخصيته الأخرى أكثر بهاء بحيث تعميهم عنها، غير ذلك فالوحدة وحش يخلق نفسه؛ كلما تحدثت عنه، قال الناس لأنفسهم إذا كان وحيداً هكذا ففي الأغلب هو يستحق ذلك. لا ينبع ذلك من قسوة بالضرورة ولكن لأنهم أيضاً لاجئون، وهم أيضاً بحاجة إلى من يُنقذهم، وليس لديهم مانع أن يستند بعضهم إلى بعض، ولكن لن يسندوا شخصاً آخر إذا لم يُمكنهم الاستناد إليه؛ دائماً يجب أن يبقى الوعد أكثر وضوحاً من الوعيد."
راوي الحكاية -الذي لم يُذكر اسمه- يحكي شذرات وأحداث تربطه مع أصدقاءه، أصدقاء لم يعودوا أصدقاء، وأصدقاء حاليين، وأصدقاء قيد المُعالجة والتنفيذ، ويتقاطع مع مصائر أخرى، مُتشابكة، مليئة بالعلاقات سواء كانت زواج أو ارتباط أو قرابة، هناك مخطط في آخر صفحات الرواية، مُتشابك ومُعقد، قد تتوه بمجرد النظر إليه، وكأنه دلالة عما يدور في عقل الراوي من تشتت وحيرة، فعلى الرغم من الكم الهائل من الأشخاص في حياته، فهو يبدو أنه وحيد، مستمع جيد، ولا يحكي إلا ما يُريد أن يحكيه، حتى أن هناك حكاية أصر الجميع على أن يحكيها وظل طوال الأحداث يؤجلها حتى انتهت الرواية. وبطريقته المُميزة، ومن استقاءه لفكرة عامة كبيرة، يندرج تحتها آلاف العناوين والمواضيع، يحكي "بلال علاء" عن الصداقة والوحدة والعلاقات، وعن الحياة في المُطلق، حكايات لطيفة ومُبهجة أحياناً، وتجعلك تشعر بالشجن والحنين أحياناً، وستجعلك حزيناً في الكثير من الأحيان بكل تأكيد، فالجميع لا يُحب الحزن، نحن نُحبه.
ختاماً..
رواية "عم نتحدث حين نتحدث عن الصداقة"، تُناقش وتسرد العديد من المواضيع، بسرد ذكي من "بلال علاء"، وبرؤية مُختلفة وبسرد دقيق وكاشف لحقيقة الأمور، بفلسفة لا تخلو من تعقيد، ولكن من قال أن الحياة ليست بمُعقدة؟ ومُتشابكة؟ وحزينة؟
سأقرأ الرواية مرة أخرى بكل تأكيد، فأظن أن ذلك سيصح عادتي مع أعمال "بلال علاء"، وبكل تأكيد يُنصح بها.