"الحب بمن حضر... قيامة الحب لا ترحم مصير العشاق"
الحب.. ما هو الحب؟ مَن يملك تعريفًا شافيًا منطقيًا للحب؟ وهل هو موجود وحقيقي أم وهم شرارات البدايات ونشوة الرغبات؟ هو نعيم للبشر، وكذلك هو جحيم مرعب بلهيب الأشواق والغيرة، وحينما تقوم القيامة هل سيتلاقى العشّاق سويًا أم ستذبل زهور المشاعر لانتهاء وقتها المشروع؟
حكايات الحب قد نرى فيها أنفسنا، حلمنا الذي نودّ لو عشناه، وأحيانًا نرى فيها عبرة، ونرضى بحياة عادية بلا حب؛ كي نأمن شرور الغيرة والخيانة، فمن يضمن إخلاصه للحبيب مهما نطق القلب بحبه؟ الشائع أن الحب موقوت بعد خمود شرارته، لكن ربما يُخلّد إلى القيامة، ليس قيامة البشر وإنما قيامة الحب.
هذا ما حدث فيما ترويه لنا هذه الصفحات، فقد أعلن الحب ثورته، واختباره الحقيقي للجميع، فإما يعتنقونه منهجًا صادقًا، أو يكفرون به، الحكاية في النص وإن كانت تمسّ شخصيات معينة فهي ليست تخصّهم فقط، بل تخصّ كل عاشق اكتوى بنار الحب أو طمع في نعيم ابتسامة حبيبه.
وعلى ذكر الشخصيات، فإن شخصيات هذه الرواية بديعة وملهمة لآفاق بعيدة، ليست لوضوح ملامحها أو صدقها وإنما لأنها شخصيات حالمة وواقعية، نحلم ونشتاق لرؤيتها وكذلك نشعر بوجودها حولنا في كل مكان، تفاصيل الشخصيات حسّية وملائكية مهما بدا منها أي عنف أو غضب؛ فقد كُتبت كأن القلوب هي عنوان وجود أصحابها، لا المكان ولا الأهل ولا العمر، وإنما هي شخصيات هويتها تنبع من نبض القلوب.
إذا تحدثنا عن شخصية "موعود" نرى فيه شاب طموح بسيط، فنان بصورة أو بأخرى، يتعامل مع قوالب الطوب يوميًا، يبني ويحلم، يرى الحياة تفاصيل صغيرة تكتمل تدريجيًا، تحتاج إلى صبر الأقوياء وإيمان المحبين، ومع أول اختبار لهذا الإيمان اكتوى بنار الرفض من حبيبته، لم يملك حلًا مقنعًا يرحم ناره، ونرى "بهجة" حبيبته التي اجتمعت روحها مع روحه بحب النحت والنقش والفن ، هي كذلك من سببت كل حزنه وألمه، ثم تأتي شخصية "مسعد" ذات طابع ساخر ومضحك، وفي ذات الوقت خير معبر عن تناقضات أحوال البلد، وأحوالنا بالمثل، من اتخذ الدين وصلة مقنعة لحديثه، مهما دُفن في داخله من مجون وحب للمخدرات وكل ما يُذهب عقله، ربما يقتنع أن ما يفعله لا يختلف كثيرًا عن عقبات الحب، وقد تكون عقباته أخف وطأة مما نرى في الحكاية من عقبات للحب لا يتحملها بشر.
نسمع الحكاية بكل إنصات، من الأفضل أن نقول نقرأ الحكاية، لكن بالفعل نحن نسمع الحكاية على صوت الناي الحزين، الذي نتخيل مع نسيج ألحانه كل أحداث الرواية تباعًا، حتى صرنا في عزلة جميلة، نعيش معها الحب، ونتعلم منها الحب، وكذلك فيها نخشى الحب.
هل تتخيل أن يأتي يوم تنبعث فيه رسائل لكل العشّاق رجالًا ونساءً تتهمهم فيه بالخيانة البشعة؟! كل رجل تأتيه رسالة من مجهول تخبره أن زوجته تخونه بأبشع الكلمات وأحطّها، وكذلك رسائل أخرى تصل للزوجات تشعل نار الغيرة، ما عقبات هذه القيامة؟ وهل يوجد من البشر من لا يهمه اتهام كذلك حتى ولو واثق من إخلاصه طوال العمر؟ ربما كانت شرور الفضائح حتى لو وهمية أكبر من جمال الإخلاص ولو كان حقيقيًا.
عشت مع هذه الأحداث المتصاعدة حالة من التشويق رائعة من الرواية، خاصة مع تزايد الشكوك في أكثر من شخصية، شعرت لفترة أني أقرأ رواية جريمة، وأي جريمة! جريمة فضيحة، وخيانة، وتخريب بيوت، أحببت هذه الحالة التي امتزجت مع لغة الحب والعشق، فأكدت على هوية النص الفريدة؛ فاللغة البسيطة المناسبة، ونسجها بانسيابية مع كل ما يحدث من رقة وطيبة وعنف ودمار كان من أعظم وأجمل في هذا النص، وخلق حالة مزيج لكل مشاعر الحب تأسر قلب القارئ تمامًا كما يحدث مع حال قلوب العشاق.
صحيح أن المكان في الرواية نشعر أنه في قرية بسيطة، لكن مع كثرة التساؤلات وجدتني أتأمل سؤالًا موازيًا: فكم من حب مات بسبب رسائل؟ وبدأت أفكر في عصر الرسائل الالكترونية الذي نعيشه، والحسابات المزيّفة، والاختراق، والرسائل التي تبعث وترسل بعلم أو بدون علم صاحبها، كم من هذه الرسائل دمّر علاقات صدق وودّ استمرت لسنوات؟ وهل فحوى هذه الرسائل حقيقي أم مجرد الخوف من الفضيحة هو من أنهى الوصل بين المحبين والعشّاق؟ ربما كانت الثقة هي الاختبار الحقيقي للحب قبل الإخلاص، لكن لا أمان مع شطحات الغيرة والشهوة والمتع الموقوتة في أوقات لا يشعر فيها المرء سوى بالضغوط الجبرية.
ما يميز هذا النص؟ سؤال محيّر، لكن سأحاول توضيح بعضًا من مشاعري وأفكاري، الرواية عناصرها بسيطة، شخصياتها قليلة، ورغم ذلك وجدت نفسي في عالم روائي متكامل، نعم أعتقد حقًا هذا ما يميّز النص، تفاصيل عادية نراها كثيرًا تم دمجها باحترافية فنان تشكيلي لتخرج لوحة جديدة نتأمل ألوانها وأفكارها وإبداعها وتساؤلاتها، استطاع الروائي الساحر أن يقتطف من أرض فن الرواية ترابًا ويصيغ منه ذهبًا لا يفقد بريقه، فخلق للنص هوية صادقة مميزة لها مكانتها وتأثيرها في قلوب قارئي هذا النص، فبالسرد البسيط العبقري تجد نفسك مذهولًا، شعرت أن كل كلمة خلقت وجودها وموضعها، ولا يمكن تغيير أو حذف أي كلمة، سرد حقيقي نابع من صدق الحكاية والحدث والشخصيات، قبل أن ينبع من احترافية وعبقرية الروائي.
في نهاية صفحات هذا النص ومع انكشاف الحقائق شعرت أن للأحداث عمر أطول بيننا جميعًا، كنت لا أتمنى أن ينتهي النص باتهام لشخص واحد أو جماعة محددة، فمع الحب كلنا يمكن أن نصبح متهمين أو محامين، تمامًا كحالنا في فصل "الحريق"، الذي جاء معبرًا عن هول وعظمة مشاعر الحب، بالفعل هي نار تكوي من يقترب منها، وربما تكوي من يحتاط ويختلي بوحدته التي يظنها أمانًا لنفسه، وماهي إلا حريق داخلي لا يمكن إطفاؤه.
لهذا النص متاهة مشاعر جميلة، عظيمة، ومتعة أدبية استثنائية، عبقرية النص في بساطته وعمقه، رواية ملهمة نُسائل بها أنفسنا، ونحاكم بها قلوبنا، نعيش فيها تفاصيل ورؤى جديدة للحب، ونأمل في مزيد من صدقه ونعيمه مهما اكتوت قلوب بناره، فهو نص بمثابة مرجعًا للأدب الراقي، والفن الجميل، والأهم أنه مرجع لسر لا نعرف حقيقته ونعيشه كل يوم: الحب.