#ريفيوهات
"كأنها مغفرة...... مسيرة معكوسة لغزال جريح"
لو سألنا أنفسنا: هل مكنتنا تطورات الحاضر من التعبير بشكل تام عما يدور داخلنا؟ أو بصياغة أخرى: هل صرنا كتابا مفتوحا، بديهي فهمه من سطوره الأولى؟ لربما تتجه أذهاننا إلى النفي القاطع. فهناك بعض المحطات والانفعالات تتطرف عن المعاني السائدة -كالحب والوجد- فيكون التعبير عنها إضافة لعذاب على صاحب التجربة -غير المنتمية لركن ثابت- فتزيد تفككه-نتيجة عجزه وهزائمه المتتالية بترويض الحكي- ومن ثم فناءه. ومن ناحية أخرى تضع تلك التعبيرات متلقيها في حالة من التشوش، فيحيلها سريعا إلى انعكاس رؤيته وسط زحام الحياة، وبالتبعية فهي على الأغلب الظن لا تقترب من حقيقة المعاناة
لذا، قد يلجأ البعض من المعذبين الراغبين في الخلاص إلى خلق امتداد من الصورة المبهمة بأدوات الأسطورة والرمز المستلهمان بشكل كبير من التراث. وبتعضيد تلك الصورة بمسحة من خيال، تتكون لوحة تعبيرية معقدة بشكل يعيد لصاحب التجربة اتزانه. وكأن هذا العالم المصنوع الذي يأكل من حدة ثورة المشاعر ويميت بعضها، هي إعادة تكوين لذات بطل الرحلة، الذي لن تتوقف قدمه يوما. وبالتوازي فإنها كذلك تجذب المتلقي، ظانا إياها أنها سلسلة متصلة لا غنى في أحد أركانها عما يليها- فأول الصورة "النسخة الأسطورية" يفضي لآخرها "خليط المشاعر الثائرة"- فيقبلها، ويقف مستغرقا فيها.
يستطيع القارئ أن يرى هذه اللعبة بوضوح بديوان "كأنها مغفرة" للكاتبة هدى عمران- الصادر عن دار صفصافة للنشر بعام 2023- فيجد كلما اقترب من نهاية الديوان أن القصائد تعين بعضها فتنسج رمزا أساسيا يمزج بين ثورة مصحوبة بالخفة والتعالي "طائر من نار" ورقة مشوبة بالخوف والانكسار "الغزال الجريح". فيقتبس من الصور الواقعية المشاعر الحرة التي لا يسعها زمنها الضيق "كما بقصيدة المباراة: طير يغني والعالم أبكم"، ويطل بعينه باحثا عما يليق بها غارسا إياها بالنهاية في أرض الرمز، خوفا من افتراس الزمن، لتخرج على هيئة صورة"مثلما قالت "صنعت نفسي على عيني" تضع بعضا من الحيرة في ذهن القارئ من تماس بعض من شكلها معه وجدانه وصنعها حبل وصل غامض بينها وبينه -يظهر ضمنيا في جملتي "حكمتها الخالدة صنعت أمومتي"- "يا أطفالي كيف تركتكم للموت؟" - رغم أنها على صورة تبدو -كما قالت شخصية "ديتا" بإحدى مقطوعات قصيدة 2011- شيء غريب عنه. فتمكن القارئ عبر هذا الإغواء من التقاط القضية المشتركة بين القصائد. ويعينه على ذلك الرموز المساندة للرمز السابق ذكره والمتنافسة على قصائد الديوان أيها أقوى في الاستمرار وتغليف قدر من الحكاية "كالأب البدوي، لوحة غوغان أثر الأم، قصيدة الأطلال، الملائكة، القرابين، والخمر"، بالإضافة إلى توظيف شاعرية النص بقصيدة النثر لترحب برحلة هذه التوليفة المعقدة من الالتباس إلى الوضوح كما ذكرنا.
تلك القضية "كيمياء العلاقات" تكمن أهميتها في كونها لا تقف عند تشريح وتحليل الدوافع والأسباب والاحتمالات، بل تثبتها -باعتبارها أساسا تنطلق به الحكاية كقصيدة سحر الحب، أو مصيرا محتوما في قصائد "في الوجد والغرابة" أو حتى شعورا فطريا لا فرار منه "كقصيدة المباراة 2012، وقصائد في الوجد والغرابة" لتركز أكثر على زاوية يرى منها قلب هذه التجربة، وما بها من تجرد من بعض التعريفات الملائمة للواقع "أو بتعبير الكاتبة سلخ النفس"، يمكن من رؤية الذات لمرآتها بين البشر. وما إن يحدث تسرع بطاقتها الفوارة-أو جوع شديد للمعرفة والاكتمال- لتتآلف مفككة ومذوبة نفسها، لتعيد التكوين بما يليق بها "استعادة لحظات الخلق الأولى" فتضيء بهالة نورانية تدل عليها.
تلك المعرفة "البسيطة"، والتي ردت فيها الكاتبة -كما ذكرنا- الإنسان لصورته الأولى، مكنتها من تحليل الخطوط العريضة من المشاعر الإنسانية بشكل أكثر وضوحا. فتارة ترينا الشوق على وجهيه: العذبة "النعيم"، التي يرضى أحد أطرافها بتحمل الخطيئة "أي يصبح قربانا"، والعنيفة الجموحة "الجحيم"، التي تشبه تفاعل الصياد مع الفريسة في الإخضاع والسيطرة. وفي تارة أخرى ترينا الرثاء كأنه بئر يفيض بخلاصة تجارب أصحابها "أشباحها- إرثها" تتحرر من أسر الوجدان، فيضع صاحبته بحالة من السكر والتخبط لموت سيرتهم بالتبعية "كما تقول وكنا نشجعهم على الموت بنذالة" كما تضعها في غلالة من الخواء بشكل لا تستطيع الملذات أن تسده "كأنني طلل لن تقوم قيامته"
وكما أدركت الكاتبة أهمية الغريزة والفطرة في الولوج للفكرة، ومثلما كان ظاهرا إيمانها أن التجربة الشعرية عبارة عن سلسلة متصلة -بوجود الشرطة المائلة بالقصائد العمودية- استعانت بغريزة البقاء في إكمال الصورة، فمن خلال قولها "كانت رغبتي في الحياة أقوى مني" تضع الذات أطلالها جانبا، محيية تجربتها، متحملة وطأة المشاعر عليها -كالحب وشعورها بالخوف لمقدمه، والوداعة التي شبهتها بنبضات كلب متكور بجانبها- مستعيدة وهجها، ومن ثم تستمر في سيرها صانعة من تجاربها واختلاجاتها مائدة، باسطة إياها لكل شعور إنساني "وخاصة الحب" كأنها مغفرة من العناء والعذاب، لتسترد إيمانها الذي يوصلها لدرجة من التشوف والعلو والقرب من الإله.