اقتباسات من رواية ما ألقاه الطير

لم أصدق قلبي يوماً، فرغته من كل شيء ذو معنى لعلني بفراغه أُشف فازداد غرقي.

مات بعد ذلك الأمر بثلاثة أيام، قال الطبيب وقتها: "كان مريضاً بالكبد"، لم يفهم جابر من كلام الطبيب شيئاً، لم يعرف ما الكبدُ الذي قتل جده، جُلُّ ما عرفه أن جده حبس دموعه فانتفخ بطنه كمن ينفخ بالوناً حتى انفجر فجأة ، فكر جابر وقتها أنه لن يخفي بكاءه مطلقًا كي لا ينتهي به الحال مثل جده.

من وجد وفقد يمكن أن يعيش حياته على ذكرى إيجاد جميلة، أما من فقد منذ البداية على أي ذكرى يعيش.

يتعذب ابن آدم بالإيجاد أكثر من عذابه بفقدان الشيء من البداية.

ماذا يفيد بقعة ضوء وسط ظلام دامس؟ أليست العتمة الكلية أهون على القلب من ضوء خافت أقصى غايته أمل هش ؟

فأثر الخيانة لا يزول، وإن أراد المرء أن يفتح فمه ليحكي سيعصر قلبه دماً تبقى قطراته في نبرات صوته ونظرات عينيه، وترافق سيره حتى يُعرف من مشيته أن ذلك المنهك تمت خيانته.

طالما أردت أن أتلاشى كما لم أكُن، غيرأن التلاشي في قاموسي كان مرادفاً للفراغ، ظننت أنه إذا فرّغ المرء داخله ونزع جذوره سيصير من الخفة التي يصبح اختفاؤه بعدها شيئاً حتمياً واجب الحدوث، لم أعرف أن الأشخاص يفنَى وجودهم بالامتلاء الكامل و وجود هوية واضحة لذاتهم المفقودة.

بالوحدة وحدها، يُجبر المرء على مجابهة تلك الأسئلة، على فتح عينيه اللتين طالما أغلقهما عمداً على فراغه العظيم، وبالوحدة عظم ذلك الفراغ داخلها

"اللـه" ‫ تلك الكلمة الوحيدة التي ميزها أهل البيت على لسان الفتاة، المثير للعجب أنها كانت تخرج من فمها الصغير منغمة بشكل آسر للقلب، ترددها صباحاً فتتفتح بها نوافذ الروح وتبتهج لها النفس، تتغنى بها ليلاً فتبعث اللوعة وتؤجج الشجن و تثير الحسرة لما مضى .

فما البحر والسماء إلا انعكاس لها، وما هي إلا انعكاس لهما، وما الزرقة إلا رؤية القاصر، وما الظلمة إلا إبصار التائه، وما النجاة إلا المعرفة.

هل سنموت، لا يهم، في نهاية الأمر الجميع يموتون، غير أن المعرفة لا يحظى بها الكل.

أخبرها أن جمالها لم يكن إلا صورة زائلة من صور الكون، وانشغالها بالصور يضيع عنها حقيقة قلبها وخُواءَه. فغرت فاها عن جهل بما يعنيه فأكمل حديثه أن دموعه كشفت قلبها الفارغ من أي جمال محتمل، وما تراه الآن هو حقيقة داخلها

وعلى ماذا فتحت حدوتة عينيها البُنيتين، على سماء سوداء وظلمة ورائحة مجاري كريهة، وحوائط لبيوت غرباء لم يرحب فيها بوجودها يوماً، هنا في تلك اللحظة تولَّد في حدوتة فراغ عميق كبئر سحيقة، فراغ البيت، ولولا يد جابر الخائفة التي انتزعتها من ذهولها العظيم لم تكن لتبرح مكانها يومًا .

يولد الأطفال وأول ما تفتح أعينهم عليه جدران لبيت ما، لا يهم أكان البيت فيلاً ضخمة أو جُحْراً أو حتى خيمة في الصحراء، الحياة مدينة لكل أطفال العالم بإقامة بيوت لهم قبل أن يواجهوا شقاءَه .

لم تعلم حدوتة في عمرها آنذاك كَمْ هي خطيرة الأحلام، وكم يصبح القلب هشًّا بامتلائه بها، ففرحت بجهل لامتلاكها حُلماً للمرة الأولى.

رحل جابر عن البيت منكسراً باكياً، تلقفته العيال في الشارع ساخرة لبكائه، لم يمسح دموعه وقتها بل نظر لهم قائلاً: "من لا يبكي، ينتفخ كبالون كبير فينفجر ويموت".