منذ وقت قريب كان الإنسان حيوياً أكثر، كانت الحياة نفسها مُريحة علي وجه كبير يختلف تماماً عن حالنا الآن، كُنت صغيراً للدرجة التي لا أتذكر معها أول مُشاهداتي لحدثٍ فنيّ مسرحي أو إذاعي أو حتي سينمائي، لكن مهما مر الزمان وتتابعت السنون لا أنسي ما منحنية الفن بعد أن بدأ عقلي يُدرك ويعي.
سيل الضحكات المتواصل أثناء مشاهدة الجانب الكوميدي ( العيال كبرت والواد سيد الشغال ومدرسة المشاغبين)، التأثر بالقيمة من خلال متابعات التاريخ ( مسلسل الطارق لممدوح عبد العليم )، حتي لو لم تسعفني الذاكرة باستدعاء المزيد من سياقات الفن وضرب الأمثلة عليها، فإنها بالتأكيد لا محدودة، بحرٌ عميق مليء بكل الأنواع والأنماط التي تتعدي رؤيتها أكبر بكثير مما تحتملة دقائق أو ساعات يُعرض فيها مشهد أو تُستعرض فيها قصة بعينها.
عندما كبرت أكثر أدركت أن ما يُبقينا علي استمرار خط المواجهة مع الحياة ومُناكفتها هو الفن، روح الفن التي يجري فيها كُل جمال مرئي أو مُشاهد أو مقروء أو مسموع،
عندما تُباغتك جملة هنا، أو مشهدٌ حقيقيٌ هُناك، أو تحد أمامك شعوراً داهمك في وقتٍ صعيب تراه مُجسداً علي هيئةٍ مُماثلة حيّة تمشي وتتكلم، حينها فقط تأخذ أنفاسك راحتها ويعود الهدوء إلي صدرك، وتُمنح راحةً حقيقية حتي وإن كانت مؤقتة فإنها تُطبع علي روحك بالصدق لتُخبرك أن هُناك من يشعر بنفس ما تمُر به بل ويستطيع تجسيدة في وقتٍ أُصبت فيه بالعجز عن تفسير صحيح لدواخلك فضلاً عن شرح هذا الشعور أو حتي التحدث به.
في العام الماضي قرأت لمحمد حليم ( صانعات البهجه ) والذي صدر أيضاً عن دار الرسم بالكلمات، وإن كان العالم الفني مُترامي الحدود وذو أفق واسع لا ينتهي، فإن المهارة برأيي أن يعرف الكاتب جيداً من أين يستطيع دخول هذا العالم وما الذي يريده منه بالتحديد.
وإذ كانت تجربة الكاتب الأول قد نالت إعجابي بضلوع مختلفة من رؤيتة في العمل الأول، فقد تطلعت بشغف إلي عنوان إصدار هذا العام - الخاص بنفس الكاتب - ( باكون ومضحكون )، والعنوان علي تضادة وجمال غُلافة فإنة يظل حمال أوجة، والجُملةُ علي إيجازها وبساطتها فإنها عميقة، فكيف يمكن للإنسان أن يتحلي بضدين مُتنافرين ويجمع بينها في نفس الوقت أو حتي علي فترات مختلفة!
ويمكن أن هذا التعقيد بالأصل هو مُرادف للفن، فالمشهد الذي تراه في دقائق قد يستغرق تصويرة أياماً وأسابيع، والقصة التي تراها عادية قد تحتمل ما لا يُدرك في المُشاهدة الأولي أو حتي لا يُدرك بالأساس! الأمور علي قدر بساطتها فيما نري، لكن لها جانباً آخر لا يقل صعوبةً عن الحياة التي نعيشها.
لم يذهب محمد بعيداً ببساطتة وأسلوبة الجميل المُناسب جداً لأجواء الفن، لم يستطل في الإطراء أو الشرح، أو استدعاء تفاصيل بلا داعي لا تُضيف إلي موضوع الكتاب شيء لا يحتمله، أجاد في اختيار شخصياتة وبرع في الحديث عنها بما يُلائم سيرة الجمع بين الضحك والبُكاء.
المُميز في هذه الفصول ليس الاسترسال في أعمال الكاتب الفنية وإبداعاتة السينمائية وحضورة المُؤثر، ولكنها تُعتبر سِيَر ذاتية موجزة ومُلخصة بإتقان يُمكن أن يُكتفي بها دون النظر إلي تفاصيل أُخري، وإن كان المُشاهد بالتأكيد لا يغيب عن عقلة كل ما رأي، فإنه يتذكر مشهداً هُنا وفيلماً هُناك، فهو ليس بحاجة للتذكير بالأعمال التي شارك فيها الفنان صاحب الحضور والذِكر، وإنما أفضل ما تضمنه الكتاب هو السيرة الشخصية لحيوات هؤلاء الفنانين بعد أن خفت توهجهم وغابوا عن الأضواء، حينها تكون نظرة الرائي الي الأمور مُختلفة، ومُحيرة، وتُحيلنا أيضاً إلي التشابك السينمائي الواقعي الذي تُؤكدة مشاهد حياة كل واحدٍ فينا كاملة.
تؤكد سياقات الكتاب وحكاياتة أن الوجه الآخر للضحك هو البُكاء، وأن ملوك الضحك هُم أكثر الناس ألماً مهما أظهروا غير ذلك، وأن فاقد الشيء يمكن أن يُعطية لأن الحياة مُتضادة مجنونة، وأن لا أحد ينال مُرادة بسهولة، حتي في أبسط التي تسعي لتحقيقها ستكون بحاجة إلي الجسارة والاقتناع بالموهبة والصبر علي الحلم.
كل واحدٍ من الفنانين له حكاية خاصة مع القدر والفرح والحزن والبؤس، بدايات مُعادة ونهايات مُتقاربة وشخصيات مختلفة تماماً لم يوحدها سوي روح الفن، والوقوف علي عتباتة في رحلة قصيرة لم تحتمل بين معانيها الكثيفة غير الضحك والبُكاء.
شُكراً محمد حليم الذي أحالنا إلي أكبر مما يحتوي الكتاب بقصصة وحكايات أبطالة، والذي شعرت بعد قراءة ثانية له أن الحديث عن الفن لا يقل متعة عن رؤيتة ومشاهدتة ولا يتجزأ عن أهميتة وفكرة التداوي به.
اقتباسات :-
❞ الواقع أن الإنسان من الممكن أن يخاف من فقد الشهرة والتوهج، وبدلًا من أن تكون سببًا في سعادته تكون نقمة عليه، ❝
#مسابقة_قراءات_قبل_المطبعة.
#دار_الرسم_بالكلمات.