لم يثر فضولي شئ أكثر من حرب أكتوبر المجيدة، قرأت عنها كل شئ تقريبا، مذكرات القادة: الرئيس و القائد العام، و رئيس الأركان، و رئيس هيئة العمليات، و قادة الجيوش و المناطق..درست حرب أكتوبر كتاريخ عسكري بحت، و قرأت مذكرات بعض قادة اسرائيل. لكن إن أرادنا أن نحتفظ بصورة تفصيلية عن حرب أكتوبر فيكفينا أن نحتفظ بكتاب محمد توفيق الأخير "الكعك و البارود".
لمحمد توفيق موهبة فذة لا أعتقد أن أحدا من المؤرخين يمتلك مثلها على الساحة الآن؛ و هي رسم تاريخ خماسي الأبعاد:البعد السياسي، البعد العسكري، البعد الاقتصادي، و البعد الاجتماعي، و أخير البعد النفسي و هو ما تحقق عمليا في هذا الكتاب.
تناول محمد توفيق معركة أكتوبر تناول حذر دقيق غاص في الالاف الصفحات و اقتطف من كل صفحة بيت القصيد،
كنت اعتقد من ثلاثة أيام أن مذكرات المشير محمد عبدالغني الجمسي هي أدق ما وصفت حرب اكتوبر ١٩٧٣ بشكل محايد دون مزايدة أو إلقاء لوم على أحد متفوقة على مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي و هما اثنان من أعظم قادتنا العسكريين، لكن أكتشفت أن الحرب لم تكن معركة السلاح فقط بالعكس معركة السلاح كانت العرس التي كللت مشروع النصر العظيم.
بدأ محمد توفيق برصد الحالة النفسية للقاهرة المدينة التي باتت تضيق بالذل و الإهانة حتى أنها باتت تنتقم من سكانها علهم يشعرون بالنار التي تتقلب عليها هذه العاصمة الشامخة التي يحاول العدو ذلها بعد عز دام ألف عام. و رصد حالة الناس التى دفعتهم النكسة لها و أجبرتهم على اعتناق أخلاق جديدة سيئة لم يعرفها المصريين من قبل حيث كثر الزحام و كثر السباب و التراشق بالألفاظ النابية على قارعة الطرق. كثرت جرائم النشل داخل المواصلات العامة حيث رصدت الدراسات أن عدد النشالين زاد بعد النكسة حتى أنه كان يقال هناك نشال لكل ٤٠٠ مواطن.
و يرصد توفيق قصر الطاهرة المكان الذي أدار منه الرئيس السادات المعركة و كيف كان هذا القصر أمين على السر، قدرت جدرانه على كتمان السر رغم أن رائحة الحرب طاغية بالأفق يشمها كل ذي عقل و يجهلها وحده عدونا المغرور، الذي لم يدرك الكارثة التي وقعت على رأسه إلا و جنود مصر تعبر القناة يحمل كل منهما السلاح و الزاد و لفافة سوداء بها نصيب عائلته من الذل و المهانة حملتها له أسرته في آخر أجازة ميدانية له قبيل الحرب مشددة عليه أن يعطيها لأول جندي أسرائيلي يدا بيد و يعود بها من حيث أتى.
غاص توفيق في أكثر من ٦٠ كتاب و راجع مئات الصحف و استخلص منها ما يربو على عشرين ألف مقال رسم من خلالها جميعا قصة الحرب كاملة من (طقطق لسلامو عليكم) و كتب بيد ثابتة متمكنة تمتاز بالمهنية و الحياد و مؤمنة بمصر، يوميات المصريين في أكثر عشرين يوم سخونة و إثارة في تاريخهم الحديث.
من الصعب أن أبكي.. لكني بكيت في عدة مواضع في هذا الكتاب أولها البيان السابع الذي أعلن رسميا العبور و نجاحه مرورا بقصص الأبطال و معجزاتهم الخالدة الشهيد قدوتي و قدوة أساتذتي و قادتي إبراهيم الرفاعي و عبدالعاطى صائد الدبابات و شعب مصر عموما الذي لعق المر حرفيا حتى يذوق حلاوة النصر. وصلنا لصلاة العيد حينما دلف المصريون يصلون العيد الذي باغتهم فجأة و لم يكن في الحسبان و أخذوا يرددون التكبير الخاص بمصر فقط دون غيرها من المسلمين
"الله أكبر الله أكبر"... فتذكروا صيحات الجنود ثم وصلوا إلى "صدق وعده" انتبهوا و كأنهم أول مرة يسمعوها ثم "و نصر عبده" فغروا الأفواه ثم "هزم الأحزاب وحده" فبكوا و بكيت معهم.
مكث محمد توفيق في البحث و الجمع و التدقيق ما يربو على عام كامل على حد علمي و أنا متابع له بصفة دائمة و عام كامل و أنا استطلع و اترقب العمل الجديد المنتظر و خرج لنا بعمل يستحق الانتظار و من وجهة نظري إذا كان فيلم الرصاصة لا تزال في جيبي هو أيقونة الأفلام التي جسدت حرب اكتوبر و ما تلاها من أفلام استمدت منه الفكرة و بعض المشاهد فإن هذا الكتاب أيقونة للحرب أيضا و إننا لو أردنا أن نستخرج بطاقة شخصية لحرب اكتوبر ١٩٧٣ يمكننا بقلب مطمئن أن نخرج كتاب الكعك و البارود ليمثل لنا هذه المعركة الخالدة
شكرا محمد توفيق ❤️