اسم الرواية: مَنّا.. قيامة شتات الصحراء
الكاتب: الصدّيق حاج أحمد.. الشهرة: الزيواني، كاتب وروائي جزائري، يعمل كأستاذ محاضر لمقياسي اللسانيات وفقه اللغة بجامعة أدرار.
النتاج الروائي:
- مملكة الزيوان، 2013
- كامارادْ ـــ رفيق الحيف والضياع، 2015
دار النشر: دار الدواية للنشر والتوزيع والطبع بأدرارـــ الجزائر.
تاريخ النشر :2021م
مقدمة:
إن أهم سؤال، يطرحه القارئ على نفسه، بعد قراءة أي رواية هو: هل تركت في النفس أثرا لا ينسى، وهل هذا الأثر الذي تركته ـــــــ إن كانت قد فعلت ذلك ـــ ناتج عن سلسلة من الحوادث، أو عن شخصية من الشخصيات، أو عن فكرة من الفكر، أو عن صورة لمجتمع في فترة معينة، أو لجماعة من الجماعات؟
فالكتب نوعان: كتب تخرج منها متغيرا للأبد، وكتب أخرى عكس ذلك، والكتاب الذي يتركك كما أنت ليس كتابا جديرا بالقراءة.
وهذا النص الروائي الذي بين أيدينا لن تخرج منه إلا وقد ملك عليك نفسك من جميع جوانبها،واستأثر بإحساسك وتفكيرك،وأسر لبك ،وشغلك جو الرواية العام،بانتظام حوادثها وشخصياتها ومشاهدها.
هذا النص الذي يمكن تصنيفه على أساس أنه "متخيل تاريخي" وليس رواية تاريخية ــ فثمة فرق واضح بين الرواية التي تعيد كتابة التاريخ والرواية التي تستعمل التاريخ كخلفية قصصية داخل السرد لبناء أحداث تتقدم بالسرد نحو نهايته المعروفة ــــ استطاع الكاتب رسم صورة جمالية متخيلة مدهشة عن مجتمع الصحراء تنبع من خياله، لكنها بمفردات الواقع المرير.
فقد حول الحوادث إلى روح وحياة تنطق وتبوح بما أخفت، فأصبحت الرواية ذاكرة ووعيا وحسا وانتباها وخبرة.
"فالتاريخ لا يدخل دائرة الأدب إذا كان وصفا مجردا لحوادث ميتة، ولكنه يصبح عملا أدبيا إذا انفعل الكاتب بالحوادث، وصورها حية ممتزجة بالأحياء الذين اشتركوا فيها كما لو كان يكتب قصة كائن حي لا قصة حادثة".
ملخص الرواية:
تدور أحداث الرواية حول المعاناة الإنسانية التي خلفها جفاف 1973 الذي ضرب صحراء شمال مالي، فأضر بسكانهاــــ تحديدا التوارق والأزواد ــــ وتسبب في هجرة جماعية للناجين إلى تخوم الجزائر، حيث فُتحت لهم مراكز الإغاثة واللجوء، وبقوا هناك حتى عام 1976 قبل أن يتمكنوا من الاندماج في النسيج السكاني المحلي واكتساب حق الانتساب إلى الأرض، واستغل القذافي اللهاث وراء سرب الوطن الموعود ومد "حبل الطعم والطمع" ووعدهم بحلم قيام دولة الأزواد شمال مالي فناداهم عام 1980من مدينة أوباري جنوب ليبيا: تعالوا.. تعالوا.. أنا منكم.. إنكم عائدون.. أمنيكم بدولة أوذوادية يوما ما؟
وفتح لهم مراكز تدريب عسكرية في بني الوليد ومعسكر 2 مارس وورطهم في حروبه في لبنان ثم تشاد. ولأن القذافي أطال حبل أكاذيبه طويلا لم يجد التوارق بدا من جمع شتاتهم وشن أول هجوم على شمال مالي في 20 جوان 1990 في محاولة منهم لتحقيق حلم دولتهم بأيديهم.
تحليل الرواية:
- عنوان الرواية والغلاف :
عنوان الرواية هو العتبة الأولى ودليل القارئ إلى النص، وله أهمية كبيرة في تشكيل الخطاب الروائي، خاصة أنه يشكل الرسالة التي يسعى المؤلف لنقلها إلى القارئ، ومن ثم فلابد أن تتوافر فيه شحنات دلالية مكثفة، تجعله قادرا على حمل الرسائل الكامنة في النص.
فجاء عنوان الرواية غامضا لافتا ، ملغزا وجاذبا للمتلقي.. فلفظ منّا، لفظ تارقي غير عربي، بمعنى الجفاف في العربية، لكن يأتي العنوان الفرعي" قيامة شتات الصحراء "، فيفكّ شيئا من شفرة العنوان الرئيس.
ويظهر الغلاف مزدانا بصورة الخيمة التقليدية في الصحراء ــــ وهي رمز من رموز التراث الذي ميًز سكان الصحراء وحدد خصوصياتهم، حيث كانت بيتهم الثابت والمتنقل حسب الحاجة والظروف ـــ لتكتمل الصورة الذهنية لدى القارئ عن محتوى النص الذي بين يديه.
- لغة الرواية: ليست سهلة، مطعمة ما بين اللغة العربية ومفردات محلية للهجة التوارق، وطريقة بناء الجُمل لا تجعلها سلسة في القراءة، حيث آثر الكاتب بنائها مسترشدا بالثقافة التارقية والحسانية، بداية من العنوان، وصولاً إلى متن النص، حتى تكون معبّرة بحق عن طبيعة وجغرافية هذه المنطقة، متناغمة مع أحداث السرد.
فإن وجد القارىء مشقة في استيعاب بعض الطلاسم والألغاز، والإلمام بالكلمات الصحيحة واستيعاب المقصود خصوصا في الفصل الأول، فليتذكر مشقة الكاتب في كتابة هذا النص الذي استغرق خمس سنوات، وأنه بذل جهودا كبيرة في التوثيق والبحث ورصد المعلومات، وفي الانتقاء والاختيار حتى يستقيم عود هذه الرواية. وليعلم أن جوتة كان محقا وهو يقول ذات مرة : إن مشقة قراءة كتاب جيد، تعادل مشقة كتابته.
هيكل الرواية:
عبر خمسة فصول تتوالد بعضها من أرحام بعض، يضعنا الكاتب في "متاهة روائية" مرسومة بعناية وحرفية وكما قيل إن مطالع الروايات وعد، فكان مطلع الراوية يهيئ القارئ للأحداث أو بمعنى آخر يجعل القارئ يفتح أفق انتظار ليكون مستعدا فكريا لما سيقرأه.
ففي "الفصل الأول": تبهرك براعة الاستهلال، والجملة الأولى التي تعتبر رأس الرواية (كل القرائن بمخيلة إنسان الصحراء باتت تشي بمجيء عام يالطليف!! الأمطار احتشمت على غير العادة، المراعي قحطت،المواشي ضاعت،تاه الإنسان)، وبداية حكاية عام الشًين على لسان البطل السارد "بادي" وهو عام النًشًف باعتباره الفاجعة الكبرى في تشتيت الأزواد بعد قهر الطبيعة في صحراء تيلمسي في مالي، واضطرارهم للرحيل القسري فرارا من سعير الجفاف، والتي أطلق عليه الكاتب اسم "عرصات يوم القيامة". كأنهم شهدوا في هذا الوقت العصيب مواقف وأهوال يوم القيامة.
وقد استحضر الكاتب مظاهر الحياة اليومية لأهل الصحراء (أبناء اللثام، أهل الصحراء، شاحنات تمور توات، النوق ضامرة، ثغاء الماعز والأغنام) وأبدع في رصد عادات وتقاليد وسمات قبائل التوارق وأنواع الطعام ( طقس حفلة الشاي، طبيخ أبزارقو، مندعا وتواجيت) والملابس (الوسادة الجلدية المزخرفة، عباءة البازان، شال من كتان بوكار)، موظفا التراث الصحراوي والتارقي من خلال أسماء الشخوص (أخمادو وغلواتة ولولة وبتو وتين البركة وهُكَتا وبتال وتين جابو وأخمنو، وسوخا) والأماكن والفضاء الصحراوي (صحراء تيلمسي، أدغاغ إفوغاس ومنكا).
وينقلنا الفصل الثاني فجأة إلى جنوب لبنان لنشهد " رقصة تيلمسي على إيقاع دَبْكَة الشرق"، وهي نقلة استباقية تجعل القارئ في حالة ترقب انتظارا لمعرفة سبب هذه النقلة غير المتوقعة، حيث رحلة شتات جديدة نشاهد فيها بادي ورفاقه في صحبة اللثام يقاتلون في صفوف فصيل فلسطيني يساري يقاوم العدوان الإسرائيلي على لبنان أوائل الثمانينيات، بناء على دعم القذافي لهذا الفصيل، حتى أُسروا في معتقل أنصار، ثم خروجهم بصفقة تبادل أسرى عادوا بموجبها الى ليبيا 1983.
ويعود الراوي بنا في الفصل الثالث إلى المحطة السابقة وهي محطة " ليبيا. غواية التويوتا والكلاشينكوف"، حيث الوعد بإقامة الوطن الوردي بالأزواد. وشيوع الأخبار الجذلة حول لبوس التجنيد وإمكانية دخول معسكرات الجيش الليبي، وشهوة الأزواد بالمركوبة اليابانية الساحرة القادرة على قهر الصحراء، وسحر الإغواء بأبهة الكلاشينكوف والسيمينوف الفائض بليبيا، وبداية رحيل آخر إلى معسكر بني وليد، واستغلال القذافي للأزواد في حروبه بالوكالة في لبنان وتشاد.
ويواصل الأزوادة في الفصل الرابع "المحرقة التي سرطتْ كتًان الكفن" هجرة شتات الجفاف إلى برج باجي مختار ببوادي تيلمسي وصحراء كيدال، ووقوع واقعة الوباء وتغول الموت في الفارين، وبقائهم قابعين في زرائبهم وأكواخهم حتى شكلوا بناءات فوضوية طينية.
وفي الفصل الخامس "سمكة إبريل القذافي ـــ اكتشاف اللعبة والمسارات المجهولة" يعود الرباعي الازواديين من مهمتهم الشرق أوسطية إلى ليبيا والعودة لمعسكر 2 مارس ومواصلة التدريب والتعسكر انتظارا لفتح قريب بسعادة وطن الأزواد، ثم إرسالهم الى تشاد لدعم القوات الصديقة لليبيا في حربها ضد حسين حبري. وهزيمتهم وأسرهم وبعد رجوعهم طالبوا القذافي بوعده، فمطّط الحبل عليهم ثانية، حتى يئسوا وقاموا بأول غزوة أزوادية من معسكراتهم بليبيا باتجاه شمال مالي مرورا بصحراء النيجر، وذلك بتاريخ 20 جوان 1990، دخل بعدها الأزواد في دوامة من الحروب المجهولة، تخللتها هدنات واتفاقات سلام، كما تناسلت بينهم عديد الجماعات الإثنية والدينية المسلحة.
ولكي تستكمل السبيكة التي شكلها الكاتب بمهارة فائقة لايمكن اغفال الدلالات السياسية والإيدولوجية التي تتضمنها النص (خلفية نشوء حركة الأزواد _ مهلوسات القذافي المركزة _الصراع الفرنسي في المنطقة - استغلال امريكا المعارضة اللبية للقذافي -الامتنان الوافر للجزائر..الخ)
وقبل أن تُخْتم الرواية يسبح بادي بعيداً في أحلامه" ويرى في المنام "علم الأزواد يرفرف عاليا خفاقا في السماء على جبال كيدال.، وبوادي تيلمسي ووديانها وصحراء منكا كما توقع، لكنه في الوقت ذاته، شاهد كل ذلك محمولا على جمل يتمايل به في غمرة ريح قوية تعصف بالمكان.
وفسرها تارقي عٌرف بقراءة الكف والمنام فقال: يا ساداتي يا كرام: وطن أزوادي، لا يزال يتأرجح على سنام إبله، أمام زكاة فرنسا لصرصرة زوابعه، كل التقارير الطبية والنفسية، أفادت صداعه المزمن، ولمّا يعيش مساراته المجهولة.
ورغم الموت والخراب والشتات والفراق، ظل بادي متمسكا بأهداب الحياة واكسيرها، بالحب الصافي ــ المقيد بتقاليد وأعراف أهل الصحراءـــــ الذي جمع بينه وهٌكتا ابنة خاله، التي انتظرته طيلة سنوات غيابه رغم ما مرت به عائلتها من ظروف حياتية قاسية. وتعرضهم لإغراء معظم أعيان قبائل التوارق والعرب لخطبتها مقابل سيارة تويوتا قاهرة الصحراء تلك العطية المغرية جدا كإغواء موافقة مبدئية على الخطبة.
تقييم الرواية:
لقد نجح الكاتب في أن يعيد تركيب وقائع الماضي المتناثر شظايا في كل مكان في لوحة متناسقة صادقة من خلال تكثيف الأحداث وضغطها الدرامي والمغزى الكبير في الحوار وبراعة وصف الزمان والمكان، ووصف الأسباب التي تنتج الوقائع، كما لم يغفل أسرار القلب الإنساني والعلاقات الإنسانية بين شخوص الرواية، مما جعل القارئ يعايش مأساتهم ومعاناتهم ويتًنقل معهم في شتاتهم كما يقول الفيلسوف والروائي المجري جورج لوكاش "أن ما يهم في الرواية التاريخية ليس إعادة سرد الأحداث التاريخية الكبيرة، بل الإيقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث وأن تعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والإنسانية التي أدت بهم إلى أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا في الواقع التاريخي).
وهذا ماحدث بالفعل، حتى يخيل إليك لوهلة أنك في رحلة مع أهل الشتات من بداية أحداث الرواية إلى نهايتها.
وختاما:
لا أدعي أني قدمت كل ما جاء في الرواية، بل يمكن لمن تقع تحت بصره وبصيرته أن يلتقط الكثير مما لا تستطيع هذه القراءة تقديمه في هذا الحيز الضيق، ولنترك لك فرصة التعرف، وعن كثب إلى ما تحمله من قيمة روائية.