لم أتخيل قط أن أحدا يجعل من أشمون حكاية، لا نكره أشمون ولا نكره الريف، لكننا نكره الفقر والجهل، لا نكره الأحلام والآمال المعلقة لكننا سئمنا الانتظار، ثمة حلم لو تحقق سيغير مجرى الحياة في هذا البلد الكئيب. يُخيّل للبعض أنه خالٍ من الأحلام، وأن الحياة متوقفة، لكن ما باليد حيلة، فقط نحلم …
في كل بيت على الأقل ثمة حلم لم يتحقق، وتتزايد بتتابع الأجيال حتى نصل لكومة من الأحلام المعلقة منتظرة قطار الأحلام لينقلها لوجهتها، لكنه قلما يأتي في موعده، دائمًا يأتي متأخرًا أو لا يأتي، وإن جاء دَهس أحلامنا تحت عجلاته .
هذا البلد المسكين ذاق الذل شبابه، دُهست أحلامهم تحت عجلات القطار، منهم من دُهس-بنفسه- تحت عجلاته بحثا عن الحلم، شهيد في سبيل الحلم .
ما بتستناش يا قطر
اللي مجاش يا قطر
ولا فيك مكان يركب حد ببلاش
وأهو فات معاك العمر
سِكّتنا خير أو شر
أخرتها إيه
أرجوك ما تقولناش
لا تنس أن الزمن دائما أعمى
دار يا دار يا دار
يا دار قوليلي يا دار
راحوا فين حبايب الدار؟
غطاهم نسيم الزمان والماضي ..
لطالما عرفنا أن آفة المصريين النسيان أو البشر بشكل عام، ننسى في ظل سحلة الحياة والبحث عن الأحلام، ننسى لكن المكان لا ينسى، معلّلا بذلك سبب تذكرنا للحضارة المصرية العظيمة، لا لأننا لا ننسى، بل لأن جدران الأهرامات لا زالت شامخة، وجدران المعابد لا زالت تحكي لتخبرنا عن تاريخ أجدادنا، كذلك تبقى البيوت كما هي للأبد -إن لم تُهدم- شاهدة على أن هذا المكان احتوى أشخاصا ذوي ذكريات وأحلام- معظمها لم يتحقق- تحكيها للأجيال الأخرى.
فالعالم مجرد حكاية يحكيها جدار ما في زمان ما لأشخاص منسيين ..
عن المفقود عندما يعود بعد فوات الأوان وانقضاء الزمان، عن حنين العودة للوطن، وعن مقت الغربة، عن معاناة الحياة، ومقتها أحيانا، عن الجهل والاشمئزاز من الغارقين فيه، عن الأحلام المعلقة التي لم تتحقق أبدا، عن لهفة البدايات، وحرقة النهايات، عن الحب، عن الجفاف العاطفي السرمدي، عن ولَه أول لقاء ، عن قصص الحب التي لم تكتمل أبدا، عن ترعة النعناعية حيث الأصدقاء، من مات غرقا ومن مات منتحرا.
أبحث في السماء
عن حياة
عن الحنين والذكريات
عن ألطاف الله
أو عن نور في المدى
نفس الدمعة اللي في عيني
نفس السكة اللي أنا بمشيها
نفس الحنين سنين وياه
نسيني زماني نسيني
وأقول الآه
وأروح لبعيد
غريب في بلاد الله
تسرق عمري الحياة
غارق في نهر الحنين والذكريات
وما لنا سواك يا الله
سبحان من جدد الصبر والحنين في قلوبنا
الحنين في قلوبنا منذ بداية الخلق، منذ أن خرج آدم من الجنة وهو توّاق إلى العودة للوطن "الجنة"
عن العودة للوطن أتحدث، تركته برغبتك أو رغما عنك، حين تشتاق لحنينه ودفء جدرانه فتعود، فتجد الضيوف أصبحوا أصحاب المكان، لن يهتم بك أحد، فقط ستسمع: عد من حيث جئت...
فقط لَحْدك المكان الوحيد الذي سيرحب بك، سيحتضنك كاحتضان طفلة لعروستها.
طلعت فوق السطوح أنده على طيري... لقيت طيري بيشرب من إناء غيري
زعقت بعزم ما بي، وقولت يا طيري!...قالي زمانك مضى دور على غيري
----
وما الحياة إلا بشر جياع يسدون جوعهم بالذكريات والحنين.
الذكريات تارة وتارة، تارة نهرب منها بالواقع، وتارة نهرب من الواقع بها ..
مر الزمان واشتعل الرأس شيبا ولا زال المفقود لم يهتد السبيل، والغائب لم يأت، الأحلام لم تتحقق، حتى الديار التي تشهد على أحداث الماضي منها الذي هُدم ومنها الذي تغيرت ملامحه وتجددت جدرانه ومُحِيَ معها الماضي
إذا من ذا الذي يتذكر؟
يتلاشى كل شيء، الناس والأحلام والآمال والأحزان، وتبقى الجدران محتفظة بالذكرى، تحلم باليوم الذي يمكنها فيه النطق- مثل حجر محمد- لتقول كان هناك حلم بين جدراني لم يتحقق
يزول كل شيء وتبقى الجدران ..
لكن السؤال... ماذا لو هُدمت الجدران؟ ستبقى الأنقاض .. أقصد الأحلام...
لا أنكر أنني انتظرت حين قال بأن له رواية في طريقها للنشر، اسم الرواية "أول دروب العودة آخر دروب الحنين"
العودة والحنين!
لطالما ربطت بينهما في مخيلتي، أربط بينهما لأن -غالبا- الحنين يتبعه العودة.
لاحظت تردده وخيفته قبل نشر الرواية، قال أنه يريد التراجع !
بالله إذا تراجعت فمن يتقدم يا سيد شكري!
لم يحدث أننا تقابلنا، لكن كلانا من هذا البلد الكئيب، تجمعنا أشمون ومحطة القطار، يجمعنا نفس المكان، جميعُنا من النهر نفسِه، نتبع التيارَ نفسَه، وحولنا الضفاف الخضراء واللبلاب المتسلق، جميعنا صورٌ ومصائرُ كُتِبت وشُبكت في شِباك الصيادين، وفي قاع المياه قُذفَت للمصير.
لم أشعر أبدا بأن هذا هو أول عمل أدبي له، لا أدري كيف أكتب عن جمال قلمه ومخيلته ودقة ذكره لأصغر التفاصيل، لن تشعر أنه من هذا الجيل... صدقني!
لم أعتد يوما أن أجد في صديق موهبة خالصة، سواء في الرسم أو الغناء أو العزف أو الكتابة، توجد الموهبة لكنه يفتقد للحرفة، يفتقد للجودة، لكني وجدت الرفيق شكري يجمع بين الموهبة والحرفة والجودة ..
هو لا يدرك قيمة قلمه
الرفيق شكري سلامة شكري ..
انتهى وأعتذر عن التأخير