ينقلك صنع الله إبراهيم عبر الزمن لفترة من التاريخ المصري الساخن جدا الحافل بالمتغيرات الاجتماعية ناهيك عن السياسية. ولأنه رجل سياسي في المقام الأول فهو يغلف كل مشهد اجتماعي بتورية سياسية لا يخطأها القارئ أبدا.
ان كنت من مواليد السبعينات والثمانينات فقد عشت معظم أحداث الرواية لايف وستلقي بك في بحر من النوستلجيا يأخذك يمينا ويسارا قبل أن يلقي بك مرة أخري في الواقع الجميل الذي نعيش فيه الأن. وإن كنت تسعيناتي المولد فستستمتع بعالم غريب لم تعشه ولكن ربما سمعت عنه كثيرا من الغرائب والطرائف. أما إن كنت من مواليد الألفية وما وراءها فلا أنصحك بقراءة هذه الرواية التي ستبدو لك غريبة تماما.
الرواية تحكي عن فترة إزدهار الدولة القومية في عهد عبد الناصر وحتى انهيار مفهوم الدولة في أذهان الناس في عهد السادات ثم الانهيار الاجتماعي الشامل في عهد مبارك والذي مهد للانهيار السياسي بعد الرواية بعدة سنوات.
أما أنا فقد عاصرت نظام مبارك منذ بدايته فأدركت فترة كبيرة من عمر الرواية و حضرت الاختراع الرهيب المسمى بالحلة الكهربائية و مسيرة الهدم و البناء حيث استبدال أرضيات و أطقم الحمامات و المطابخ ثم سرمكة الحوائط ثم تغيير نوعية دهانات البيت بالكامل و الانتقال من شقة لأخرى و من منطقة لأخرى لمراعاة الوجاهة الاجتماعية و حضرت الغسالة العادية التي لم تستبدلها أمي بالغسالة نصف الأوتوماتيك تمهيدا للانتقال إلى الأتمتة الكاملة كما فعلت ذات و لكن انتظرت طويلا حتي حصلت على الغسالة الأوتوماتيكية مرة واحدة دون المرور بالمرحلة الوسطى. عاصرت أيضا الانتقال من التلفزيون الأبيض و الأسود ذو البوصات الاثنا عشر إلى الملون من نفس الحجم ثم إلي الأحجام الأكبر بعد ذلك قبل استبداله بالتلفزيونات الرقمية الحديثة. لن ننسى أيضا الثلاجة الإيديال ثمانية قدم الشهيرة التي لم يخل منها أي بيت من بيوت الطبقة المتوسطة قبل أن يلحقها التطوير بثلاجة كريازى أو ويستنجهاوس الملونة ذات البابين والست عشرة قدم وكذلك استبدال الأرضيات والحوائط بالسيراميك والبورسلين والرخام أو بالأخشاب وورق الحائط ووضع الموكيت ثم السجاد ثم رفع الموكيت والسجاد لصالح تشكيلات الرخام ثم وضع السجاد منفردا. حتى لوحة الطفل الباكي الروسية و الفازة الضخمة ذات الزهور الصناعية و التي تجد بداخلها بطاريات قديمة و أقلام ضائعة و نقود معدنية و بنس شعر و بكر خياطة و كأن بها ثقب أسود يبتلع كل ما يمر بها أو حولها من أشياء.
لم تغب أيضا جلسات البث بين أمي وخالاتي أو صديقاتها سواء من الجيران أو زميلات العمل والتليفونات التي لا تنتهي والمشاوير التي لا تنقطع وكذلك جلسات البث الأبوية الثنائية مع الصديق المقرب أو الجار الحِشري.
لم تفلت من صنع الله إحاطتنا بالأحداث الهامة حيث الديون المصرية الحكومية ونصيب الفرد منها ولا التطبيع مع الصهاينة ولا شركات توظيف الأموال وإضرابات عمال المصانع أحداث الأمن المركزي في منتصف الثمانينات وإرهاب الجماعات الإسلامية والمد السلفي حيث السواك والحجاب واللباس الأفغاني والخليجي. حتى الدعارة والرشوة وكل العورات كشفها لنا باقتدار وخفة دم وأدب حقيقي.
رواية قسمها قسمين وجعل لكل من فصولها قسم معلوم. فجزء روائي عن ذات وجزء عبارة عن مانشيتات الصحف في تلك الفترة فإن كنت ملولا فيمكنك تجاوز جزء المانشيتات فتوفر علي نفسك عناء قراءة نصف الصفحات وان كنت صبورا فستستمتع كثيرا بهذا الجزء تماما كاستمتاعك بالرواية الرائعة والتي تعد أروع ما قرأت للكاتب حتى الأن.