رقم مائة وتسعة عشر/2024
ذات
صنع الله ابراهيم
تطبيق ابجد
"" ألف المصريون المحدثون تأريخ أيامهم بالتقويم الثوري (قبل 1952 وبعدها) قبل أن ينتقلوا إلى التقويم الرئاسي للثالوث الذي تعاقب على الحكم بعد الثورة (عبد الناصر، السادات، مبارك)، أما ذات فكان لها تقويم خاص يعتمد الثالوث الأموي الذي تعاقب أفراده على خدمتها: أم أفكار، أم عاطف، أم وحي""
تعتبر رواية "ذات" المثيرة للجدل من أروع روايات الكاتب المصري الكبير صنع الله إبراهيم.
ذات".. رواية تصور ملامح تحول المجتمع العربي حيث نشرت الرواية عام 1992 أي بعد احداث العراق والبدء بحصاره فهل تغير شيء؟ حيث عرضت على التلفزيون بنفس اسم الرواية وقانت بدور ذات الفنانة نيلي كريم وبدور زوجها الفنان باسم سمره ومن حضر المسلسل الذي عرض عام 2013 ,وقراءة القصة يجد ترابطا عجيبا للأحداث لا اختلاف كبير.
المجتمع المصري: فتاة من حي شعبي فقير ولدت يوم ثورة الضباط الاحرار كما تم تسميتهم إثر انقلابهم على النظام الملكي والاطاحة بالنظام الملكي، إذا هنا نعيش مع ذات وعائلتها وأهلها وحارتها وعملها ومرضها من عام 1952-2013 سنتين بعد ثورة يناير.
هنا التاريخ المصري متضمنا التاريخ العربي حيث شهدت فترة السبعين فترة التغيير الذي نقله الروائي المصري صنع الله إبراهيم عبر الزمن لفترة من التاريخ المصري والعربي الساخن جدا الحافل بالمتغيرات الاجتماعية والسياسية. ولأنه رجل سياسي في المقام الأول فهو يغلف كل مشهد اجتماعي بتورية سياسية لا يخطئها القارئ أبدا..
تتحدث الرواية عن فترة ازدهار الدولة القومية في عهد عبد الناصر وحتى انهيار مفهوم الدولة في أذهان الناس في عهد السادات ثم الانهيار الاجتماعي الشامل في عهد مبارك والذي مهد للانهيار السياسي بعد الرواية بعدة سنوات حيث التغيير والتطور في البناء والأدوات وفي السياسة وفي كل شيء حاولت ذات وحاولت ان تستمر وتنطلق لتواكب الحدث سقطت وصعدن..
عرفت المجتمعات العربية تحولات جدرية مع بداية انهيار المعسكر الاشتراكي، وتحول النظام العالمي إلى الرأسمالي او القطب الواحد مس هذا التغير واقع الحياة، في المنطقة العربية في شتى أبعادها، الاجتماعية، والاقتصادية فبعدما كانت المجتمعات العربية متعاطفة مع الفكر الشيوعي، وخاصة الشعوب المقهورة اجتماعيا، لأنها كانت ترى في النظام الشيوعي تخلصا من نير الاستعمار والظلم الذي كان يطالها من قبل المتواطئين معه، ستصدم بعدما بدأ ينهار هذا الفكر ويتلاشى، بفشله سياسيا بالدرجة الأولى ثم اقتصاديا.. الخ. لتواجه العالم الجديد بصدور عارية.
معنى الرواية:
أول ما نقرأ في الرواية هو العنوان الملفت والغريب بعض الشيء "ذات"، هكذا نكرة مفرد، في الحقيقة هذا لا يحيل على شيء بعينه، فهذه الكلمة فقط تشير إلى ذات من الذوات، قد تكون امرأة أو رجلا أو مجرد ذات أخرى من الذوات، غير أننا بمجرد أن نتصفح الرواية نجد أن ذات اسم لبطلة الرواية، فهنا تتقلص مساحة الاحتمالات لدينا، لتصبح ذات إذا اسما لامرأة.
ذات اسم امرأة من الطبقة الوسطى، من خلالها يصور لنا الكاتب معاناة الشعب المصري، نجد أن الكاتب سيتجاوز مرحلة ولادة البطلة وشبابها، دراستها التي لن تكملها، وما رافق كل ذلك من تغيرات، لينتقل بالقارئ مباشرة إلى مرحلة حاسمة في تاريخ حياتها، هي ليلة دخلتها، لأن المعاناة ستبدأ من هنا، ليس معاناة البطلة ذات فقط، بل معاناة كل ذات داخل المجتمع المصري الصغير، والمجتمع العربي الكبير أيضا، كباقي أفراد المجتمع فذات لن تكمل تعليمها، معتقدة أنها ستلزم البيت ولن تحتاج إلى العمل، وهذا كان رأي الزوج أيضا، غير أن تحول المجتمع من نظام كان المواطن يرضى بحياة الكفاف، إلى نظام سيحتم على ذات أن تشتغل حتى تستطيع الأسرة الصغيرة مواكبة هذا التحول، وما أصبحت تتطلب الواقع الذي لا تنتهي متطلباته.
فبدءا من مستلزمات البيت، وما باتت تتطلب الحياة الجديدة، حيث بات من الضروري وجود مثلا بالبيت تلفاز، ثلاثة، سخان، أنواع معينة من الصابون، أو السيراميك… وبعض الأثاث المعينة، كما أن الأكل بات يتطلب مستحضرات جديدة.. نجد أن الرواية تتوغل في وصف أدق الأمور من الحياة الاجتماعية، كما أنها في كل فصل تسلط الضوء على مشكلة ما من المشاكل اليومية التي قد تواجه ذات، قد تكون في السوق، البقالة، في الإدارة وغيرها.
لذكاء ومهارة الكاتب الروائية، نجده قد خلق مسارا موازيا لمسار ذات داخل الرواية، حيث كلما تابعنا فصلا من حياة ذات، في الفصل الثاني ينتقل بنا الكاتب إلى الواقع العام المصري، من خلال توثيقه لبعض الأخبار الصادرة في المجلات آنذاك، سواء المؤيدة منها والمعارضة، كما لا ننسى أن هذه الأخبار لم يقصد الكاتب توثيق صحتها أو كذبها، بل كل ما كان يهمه هو أن يضع القارئ في الجو الإعلامي العام، الذي كان له تأثير مباشر على واقع "ذات" وغيرها من الذوات الأخرى داخل المجتمع، وهنا يجعلنا إزاء متلازمات الإعلام والواقع، وما مدى تأثير الإعلام على الواقع العام، وتضليله أيضا، ولهذا السبب ربما نقل الكاتب من الجرائد بشتى أنواعها وتضارب آرائها وتحليلاتها لبعض القضايا، مما يجعل القارئ يستنتج اللعبة القذرة للسلطات وكيفية تسخيرها للإعلام في صناعة واقع جديد واقع أمريكي.
هكذا من خلال المسار المتوازي، نتابع أخبار العقود والصفقات التي كانت تبرمها الحكومة مع الشركات الغربية العملاقة التي كانت قد بدأت تغزوا العالم العربي وقتذاك، وبالأخص الشركات الأمريكية، وهذا يجعلنا نعيش ربما أولى المحاولات الأمركة للمجتمعات العربية، حيث يغدوا الطابع الأمريكي يطغى على كل شيء، كما نتابع أخبار الاختلاسات والسرقات التي تتم لأموال الشعب تحت ذريعة ما، ومظاهر الفساد بشتى أنواعها عموما، كما نتابع استغلال الشركة لحالة الجهل التي كانت تنعم بها المجتمعات العربية، وتسويق منتجاتها المضرة في غالب أحوالها، في مجال الأدوية، والأسمدة، وصولا إلى المواد الغذائية، وهذا طبعا كان يتم التغاضي عنه من قبل المسؤولين آنذاك، أو تبريره بتصريحات دغمائي.
نجد في مشهد من مشاهد الرواية أن ذات تحاول الشكاية لدى قسم الشرطة، بسبب وجود علبة زيتون منتهية الصلاحية، مما سيحتم عليها خوض مرابطون بين أقسام الشرطة وباقي المؤسسات الإدارية الأخرى، والنتيجة طبعا "ما فيش فايدة"، وبمشهد قريب من هذا تختتم الرواية، غير أن حالة اليأس من الواقع العام كانت قد أقنعت ذات بأنه "ما فيش فايدة" وبالتالي فإنها ستقرر أن تلقي بعلبة من الحوت الفاسد التي كانت قد اقتنتها لتوها، دون أن تجرب مراط ونها الأول.
ذات والتي كانت تشتغل في أرشيف إحدى المجلات، كانت قد ولدت في فترة عبد الناصر وجايلت فترة السادات ثم مبارك، وبالتالي فهي أقبلت كباقي أمثالها الآملين في حياة كريمة، على الحياة بكل حيفاوية ونشاط، مؤملة في عيش كريم هي وزوجها، غير أن المطاف سينتهي بها عجوزا يائسة، تطالع ملامح شابة يبدوا أنها لا زالت أثيرة عهد بالزواج، لتذكرها بتلك الشمعة التي كنانتها قبل أن يخبوا نورها، كما خبا نور كل من كان يحلم بحياة كريمة في الوطن العربي، وربما من حينها بدأت سنوات الاحتقان لتنفجر في عام 2011 تلك الثورة التي اخذت فلذة كبدها ابنتها التي احبتها ابتهال حيث يتم اختطافها وتعذيبها تعذيبا شرسا كنا شاهدنا في المسلسل .
تنتهي الرواية وذات تنتظر أودها لتولم لهم سمكا كانت قد احضرته بسعر رخيص لتكتشف أنه فاسد، وأنها كانت في سنوات سابقة قد ذهبت لتقدم شكوى عن سمك فاسد، وأخذ منها ذلك أكثر من شهر ليصل إلى لا شيء ،وانفجرت باكية.
الرواية كخلفية تقدم جوابا عن سؤال لماذا قامت الثورة في مصر، ولماذا تقوم الثورات.