"الوضوح. نعم هذا ما كرهته أكثر من أي شيء آخر... ففي الأفلام تكون الأشياء واضحة على الدوام، أسباب اللقاء وأسباب الحُب وأسباب الشقاق واضحة ويُمكن فرزها بسهولة. أما في الحياة، التي يُفترض أنها المادة الملهمة للفيلم، فلا شيء واضح، لا الحب ولا الخوف ولا الفراق ولا للقاء، ننهض من غموض لنقع في آخر، وإن كنا محظوظين كفاية نسبح في الغموض كأسماك شقية دون أن نخرج منه يوماً أو نتساءل عن العالم خارج الماء، ماء الغموض."
رواية "ثوب أزرق بمقاس واحد" تدور حول فكرة واحدة، ولكن اعطتها الكاتبة حقها، فأصبحت تتشعب وتشمل كل جوانب الحياة، ألا وهي: اكتئاب ما بعد الولادة، عند السيدات بالطبع. (1)
تبدأ أحداث الرواية بعد ساعات قليلة من ولادة الطفلة "ماف"، لتعيش أمها التي لم يُذكر اسمها طوال أحداث الرواية -كرمزية مفهومة- أحداث سودواية تحدث فقط في داخل رأسها، الذي سرعان ما أصبحت تؤثر على الموجودات حولها، وفي ظل عدم فهم زوجها "ديدار" لما تمر به، فتفاقم البلاء، وأصبح الشقاق بينهم واسعاً، رغم قرب جسديهما من بعض.
كيف يُفكر المكتئب؟ أظن أن هذه الرواية أجابت على هذا السؤال، وليس فقط الحالة الخاصة لاكتئاب ما بعد الولادة، فالاكتئاب مُتشابه وأن أختلفت الأسباب. تسترسل الراوية، على شكل مذكرات لأيامها، في ظل هذا الوحش الذي أتخذ شكل سيدة مُتشحة بالسواد تظهر حولها دائماً، وتبث سمومها في أفكارها، ونرى كيف أن الأمر في منتهى الخطورة، إلى الحد الذي قد يجعل الأم، لا تكتفي بقتل نفسها فقط والتفكير في الانتحار بشكل دائم وجمال التشبيه بالنافذة وكأن الانتحار مخرج، ولكن يتطرق الأمر لأبعد من ذلك ويصل إلى الحد الذي تفكر فيه الأم بقتل ابنتها أيضاً. وذلك التجسيد في الرواية كان صادم ومُقلق، وظللت طوال أحداث الرواية قلقاً من نتائج هذا التفكير.
"ليس السيئ في الذكريات نسيانها بل عدم تمكننا من إلصاقها بجسدنا الحاضر، شعورنا أنها لن تنتمي لنا ولم تك يوماً."
بالإضافة إلى كل تُلك الضلالات والتأملات السودواية في الحياة وجودتها، والجدوى منها في الأساس، يصاحب هذا الاكتئاب الوحدة القاتلة، فزوجها لا يُبالي بما تمر به، لا يفهمه، يراها مُترفة لتقوم بهذه الأشياء، لا تُقدر الحياة، إلى آخر مما نسمعه في مثل هذه الحالات، فكانت الوحدة أيضاَ ضيفاً ثقيلاً على نفسها، فأصبحت تنظر إلى حياتها كلها، ذكرياتها، أين أصدقائها؟ عائلتها؟ كيف أصبحت بهذه الوحدة؟ وكيف سقطت أوراق شجرة المعارف بهذا الشكل السريع، أصبحت وحيدة بشكل مُرعب، تتأمل ذكريات قديمة وتشك في وجودها، هل فعلاً مررت بهذه الذكريات؟ أم وجودها مجرد خيال مريض آخر! ويتوالى السقوط والإنحدار، حتى تُصبح لا تجد مخرجاً إلا نافذة، بعدها يُمكن أن تكون حراً، ينبغى أن تموت لتحيا؛ وقد كان.
ختاماً..
رواية "ثوب أزرق بمقاس واحد"، هي رواية هامة للتعريف بأحد أشد أنواع الاكتئاب سودواية، ولا يؤخذ في الحسبان بشكل طبيعي، ويعامل معاملة الترف، فتكون مثل هذه الكتابات تحذيراً لنا، وتوعية، لكي نتمكن من إنقاذ ما يُمكن إنقاذه.
بكل تأكيد يُنصح بها.
(1): هناك بعض الأبحاث التي أكدت أن اكتئاب ما بعد الولادة يأتي عند الرجال أيضاً بنسبة صغيرة بالطبع، ولكنها حالة موجودة، فتخيل أن النساء لا تُعامل بجدية في هذا الشأن، فما بالك برجل.