مراجعة لرواية بوح ريحانة للكاتبة كاردينيا الغوازي
دار إبداع للترجمة والنشر والتوزيع
التقييم خمس نجوم
كتابات كاردينيا أعتبرها من هذا النوع الذي يترك شعور جيد في النفس بعد الانتهاء منه
تجعل إنسانيتك المحاطة بالعنف والحزن والفقد وصعوبة العصر، تلين لفطرتها الأولى وتستردها بين صفحاتها، فتحب كينونتك وتلتمس لها الأعذار، وهذه وظيفة الأدب الجيد من وجهة نظري، أن يواسيك أو يضيء لك قبس من نور، أو يعري المعاناة الإنسانية بإنسانية لتعلم أنك لست وحدك.
"بوح ريحانة"
لنبدأ من الغلاف بلونه الأخضر وهذه الفتاة مغمضة العين وكأنها تقرأ جدران روحها، وعنقها الطويل هل هو شموخ محارب انتصر في معركته، أم هو استغراق في داخلها وهي تقرأ بوح الجدران، جدران روحها
الأخضر، لون الريحان، ريحانة
ريحانة عالم موازي رحيم ومليء بالأمل وعطر الريحان المنعش، لا يوجد به انتهاك للجسد ولا للروح، لا يوجد به خذلان الوطن المتجسد في الأم، حقل من الريحان، دلفت إليه ريحانة داخل روحها عندما بحثت بدأب ومثابرة عن كوة صغيرة جدا للنجاة،
وجدته هناك داخل ذكرى قديمة لكنها مضيئة، مع والدها عندما سألته عن معنى اسم زميلة لها تدعى بريحانة وأخبرها وهو لا يعلم حينها أنه منحها سلمًا ستتسلقه حتى تخرج من جب مظلم ألقتها فيه والدتها عن عمد ورضا كامل.
ربما علينا أن ننتبه ونحن نخاطب أطفالنا، لأن كلماتنا البسيطة لهم، هي دعائم متينة سيستندون إليها حين تخذلهم أجسادهم ويخذلهم العالم أجمع.
أشرقت بطلة، لا أقصد توصيفها كشخصية رئيسة في هذه الرواية، بل بالمعنى الحرفي للكلمة، هي بطلة لأسباب عديدة
لأنها لم يشتبه عليها ما تعرضت له يومًا مع زوجها الحيوان أنه حب أو حق، بل كانت توصفه بوصفه الحقيقي، حيوان، كانت تعلم أنه يأسرها ويختطف إنسانيتها مقابل صفقة عقدتها والدتها، وكانت تستمر معه لكي توقف مد الظلم تجاه أشقائها.
العلاقة المسيئة التي تعرضت لها أشرقت لا أستطيع توصيفها فزوجها مثلا لم يكن يمنحها شيء من العاطفة الممتزجة بالعنف حتى تدمن الأذى كالنرجسي مع ضحاياه، بل هو كان يمنحها العنف الخالص والإهانة الدائمة، ربما لحسن حظها لكي لا تختلط عليها الأمور فظل عزام وصفه الوحيد في عقلها أنه حيوان يعاشرها كالبهيمة.
كانت تتخيل حتى أسباب النجاة للتشبث بها، جرجرت ذكرى والدها القديمة لتدلف إلى حقل الريحان وحدها وتكتب بوحها
ما هو البوح؟ في هذا العنوان معناه إظهار الشيء
وهي أولى خطوات الشفاء أو النجاة
لقد باحت أشرقت للجدران، لروحها، أسمعت نفسها ما حدث لها من انتهاك لتضع حجر البداية لكل شيء
قال الله تعالى في سورة الرحمن
" خلق الإنسان* علمه البيان"
البيان هو النطق وإظهار الحقائق والبلاغ ويمكنه أن يشتمل على كل ما يبينه الإنسان ويعبر عنه،
البيان طبيعة إنسانية خلقها الله بنا وعلمنا إياها، والبيان هو سبب كل حضارة إنسانية ودونه لم نكن لنستمر، نحن نتوارث بوحنا وبوح أجدادنا ونعلو فوقه جيلا بعد جيل.
ومن يخرس صوته تسلب منه إنسانيته ويصبح فجوة في الوجدان الإنساني، لذلك كان عزام لا يخرجها ولا يتركها لتفعل شيء إلا أن تكون أسيرته، استلب صوتها ولكن الروح الحرة تجد طريقها رغم أنف كل ظالم، تلك النفخة التي نفخها الله في أبينا آدم ليكون خليفة في الأرض، جعلتنا نستطيع فعل ما نريده لو أردنا،
أشرقت المستضعفة وجدت في مكالمات زيد التي حدثت بتشابك قدري للأسلاك شعلة أمل بل شاطيء نجاة محتمل، كانت تراه من بعيد فتجد الدفء والأمن بعد خوف، فتعد نفسها بالحب، العصا السحرية لكل مشكلة كما نقرأ، فلكل رواية هناك شرير ملعون وأمير وسيم يختطف الأميرة الأسيرة من برجها الموحش وتتنهي بنهاية سعيدة.
لكن لم يحدث، لم يكن الأمير أميرًا، وعندما خذلها بوضوح نبذته كأنه لم يوجد في عالمها ويا لقوتها حينها،
قوة وضوح وفهم الهدف
لم تتردد للحظة وتتصبر بفتات الحب الذي يمنحه له وهي تحتاجه، لكن حاجتها الأسمى هي استعادة إنسانيتها المسلوبة، الاحترام والأمان كانا أهم لديها من عاطفة حرمت منها، من الجميع حتى الأم مصدر الدعم الأول والحب غير المشروط
أغلقت الباب في وجه زيد وفتات عاطفته بحزم، فأضاء الله لها الطريق خطوة خطوة، فكانت تتبع خطواتها بشجاعة من ليس لديه شيء ليخسره.
زيد لم يكن أميرا أو فارسًا بل كان يظن نفسه هكذا، كل رجل يحترم نفسه داخله هذا الظن أنه سيبقى رجلا عند المواقف الفارقة، وأنه يحتاج فقط فرصة ليظهر أمام نفسه قبل أي أحد، أنه جدير برجولته وإنسانيته.
لكن أشرقت أظهرت له العكس تمامًا في جمل بسيطة واضحة، زيد الذي كان ساخطًا على والده الذي هجر والدته الناجحة المحبة المتفانية،ورغم هذا اعتقد زيد بغباء أن النساء لا يحتجن إلا للعاطفة التي سيقدمها لهن عن طيب خاطر في وقت استضعاف وعوز شديد من الباحة الخلفية.
يا الله ما أسهل الفروسية واكتساب احترام الذات
إنه أمر ممتع ولا يكلف الكثير، قالب كيك، وقلادة عليها اسمها.
زيد لم يكن يخطط لخسة معها، لكنه للأسف لم يكن يصل حتى لوالدته ومعاناتها لو فهمها حقا لما صدمته أشرقت بحقيقة ما قدم لها، مثل الكثير من الرجال الأغبياء يظنون أن حاجة المرأة هي العاطفة ولا يعلمون أن حاجة النساء - وأي إنسان- الأولى هي الأمان. والعاطفة بدون احترام، شيء مقزز عافته نفس أشرقت رغم كل القسوة التي تعرضت لها، لذلك هي بطلة تعرف ما يليق بها ولم تقبل الدنية في الحب والحياة، ليس بعد كل هذا الدمار.
عندما طاردها زيد للنهاية وهو يلهث خلفها طلبا للزواج، كان يريد أن يسترد احترامه لنفسه بعدما عرت أشرقت حقيقته أمامه، لم يكن يصدق أن الشعارات الرنانة تظل مجرد كلمات فارغة من المعنى حتى تختبرنا الحياة فيها.
أما أشرقت فقد أنضجتها التجربة القاسية ورأت في زيد بريق زائف، لم يغريها على العكس سرعان ما كشفت زيفه، كما التقطت معدن باهر الأصيل بسهولة
تجربتها صنعت لها مناعة إذا من الأوغاد، كانت تبحث عن فارس حقيقي، لا يلفت النظر لأول وهلة ولا يمتلك جوادًا ولكن يمتلك الكثير من الصدق والثقة في نفسه أولا وفي ما يريده مثل باهر
مرحلة مكتب شاهين الجميلة التي كانت كحصن لها، تغريدات دكتورة فريدة المتوازية مع أحداث أشرقت، نهمها للتعلم وبناء نفسها وعلاج جسدها المنتهك ومراوغتها لعزام وأهلها حتى تنتهي العدة
الحضن الجماعي الذي تمنحه لأشقائها وتتقوى به، ثم محاربتها عزام في المعركة الأخيرة قبل سقوطه
مشروعها الذي غرسته في أرض انتصاراتها
يظهر لي أن أشرقت كانت محاربة وحيدة،سلاحها الوحيد هو الصمود والتقدم مهما رأت من أهوال.
والدتها المجرمة الأولى التي تقدم أطفالها قرابين لتملأ بطنها دون أن تبذل جهدًا، غادرتهم وتزوجت من مشعوذ، هذا النوع من الأمهات لا تنتهي لعنته وربما طاردهم عارها للنهاية وهي مكبلة في الاصفاد مع زوجها، لكن تظل نجاتهم منها عظيمة ورائعة
أشرقت محاربة تمتلك الكثير من الصبر والجلد، صنعت من معانتها جسرًا كي تصل لبر الأمان وتترك خلفها حرائق الماضي تشتعل دون أن تبتلعها داخله.