#ماراثون_القراءة_مع_بيت_الياسمين
منجم ذكريات ينتج ألف قصة وقصة
علمنا الكاتب والروائي الراحل علاء الديب في بابه الصحفي الشهير "عصير الكتب" وفي كتابين له بنفس العنوان، أنه ينبغي للقارئ أن يضع لأي كتاب يقرأه عنوانًا -يخالف ويختلف عن العنوان الذي اختاره المؤلف-، يعبر عن انطباعات القارئ وأفكاره وتجربته الشخصية في قراءة الكتاب. وهكذا تعودت أن أعيش دور "صائد العناوين" بدءًا من الصفحة الأولى لأي كتاب مهما كان مضمونه. وبالطبع لم يختلف الأمر مع هذه المجموعة القصصية البديعة "ملاذ" لمؤلفتها زينب الفضالي. واحد وعشرون قصة قصيرة، يسبقهم إهداء مقتضب ومبتكر يدعوهم لقراءة الكتاب، علهم يجدون بين صفحاته ملاذًا.
القصة الأولي بعنوان "أبو شحاتة" شجيع القرية وبطلها.. الفتوة.. يخافه العيال ويهابه الصبية ويتحاشاه الشباب ولا يستخف به الكبار. قصة محكمة -كغيرها من قصص هذه المجموعة- كتبت بلغة بسيطة وجزلة، تتراوح بين عامية الحوار، وفصحى سهلة في السرد.. لكنني بعدما قرأتها أدركت أنه قد فاتتني أول فرصة للصيد.
القصة الثانية عن رجل تزامن خروجه على المعاش مع وقوع كارثة فيروس "كورونا". فهي تحكي عن برنامج أربع وعشرين ساعة يقضيها حبيس الجدران. الرجل مسن وقنوع، ويحاول جاهدًا أن يتأقلم مع الاحتياطات -أو بالأحرى المنغصات- التي فرضتها الجائحة على حياته.. فراغ ووحدة، وأضيفت إليهما عزلة وحرمان من لقاء حتى أحب الناس إليه ابنه الوحيد. وتمضي القصة في سرد وقائع هذا اليوم الطويل والممل حتمًا.. تناول الإفطار.. تصفح الجريدة، ومتابعة الأخبار، وجميعها من الصفحة الأولى للأخيرة تتعلق بالفيروس. يتذكر ابنه الطبيب الذي لم يزره منذ شهر.. وزوجته التي تركته ولبت نداء ربها. إعداد وتناول طعام الغداء في صمت.. ينتقل لمشاهدة التليفزيون يحدوه أمل عريض أن يجد فيه سلواه.. يتحدث إلى نفسه لاعنًا تلك الوجوه الكالحة الكاذبة التي يشاهدها، من سياسيين ومذيعين ومذيعات وبرامج تافهة، وأفلام أمريكية مضجرة.. وفنانات سمجات.. وسيل منهمر من الإعلانات يتخلله قليل من البرامج.. بريموت التليفزيون يقلب القنوات، حتى يصل إلى ضالته.. فيلم عربي أبيض وأسود... هذا هو العالم الذي يعرفه ويرتاح له ويأنس به.. العالم الذي يتذكر معه أجواء الصفاء والنقاء وأيام الطفولة والصبا.. والضحكات الضائعة.. عالم فؤاد المهندس "سبعاوي" ومكنته اللي طلعت قماش! وشادية اللي عيانة وعندها استبحس.. وسمعة شغلته على المدفع "بوررروم"!.. وليلي مراد والحب جميل.. محمد فوزي وهو يحتضن فاتن و"طير بينا قلبي"! وهكذا عاش مع ذكرياته لبقية يومه.
"الذكريات"؟! لاحت لي كصيد.. لكنه مراوغ.. فمن يدري، ربما تغير المؤلفة وجهتها في القصة القادمة، كما فعلت من قبل.
القصة الثالثة: "أغنية لم تكتمل" رائعة، بل أراها درة هذا الكتاب.. تحكي عن جندي بقدم واحدة وعكاز يتذكر في أسى زميله وصديقه الحبيب شهيد الإرهاب.. خفة ظله، وشجاعته.. وجهه الطيب الضحوك، وصوته العذب، وأغنيته التي لم تكتمل.
ثم قصة بعنوان: الدنيا.. صيام. بالبلدي كده: هي كلها علي بعضها ذكريات صيام رمضان.. اللعب بالفوانيس ووحوي يا وحوي.. وحلو يا حلو.. صيام لحد العصر فقط... زيارة الجدة والهدايا... روائح المرق الفواحة والأكل مختلطة برائحة البخور، وصوت ترتيل القرآن.. فول مدمس وزبادي.. كنافة وقطايف وقمر الدين... وراديو وتليفزيون.. المسلسل الديني، وفوازير نيللي، ومسلسل "صيام-صيام"...
هذا المسلسل عرضه التليفزيون في 1980، تتذكره المؤلفة هنا. هنالك كانت فرحتي وبهجتي بعنوان قد اصطدته لتوي: "من وحي الذكريات".
وتواصل المؤلفة قصصها ولعبة الذكريات.. وتتنقل كالنحلة بين موضوعات مختلفة ومتعددة، وتنوِّع ببراعة النماذج الإنسانية التي تحكي عنهم، وتتطرق إلى عوالم وآفاق في شتى الاتجاهات. تنتقل إلى حلب ومأساة الوطن تجسدها في عيد ميلاد طفل صغير يسمع أصحابه يغنون له: سنة حلوة يا جميل... انكسار حزين على محياه.. ففي ذاكرته لم تأت أبدًا سنة حلوة، ولم يحظ من قبل بعيد ميلاد.
ثم تسافر إلى ريف مصر، لتحكي لنا قصة "عم محمد" بائع الفجل والجرجير. وبعد ذلك قصة عن ابنة أخيها ذات الأربع سنوات، وعالمها الذي تعيشه على التابلت، أفلام وألعاب وتطبيقات تسحبها إلى عالم آخر.. وهي فرصة للذكريات لا يمكن أن تفوتها المؤلفة، فتبثنا ذكريات طفولة جيلها.. الاستغماية والراكت والسلم والثعبان والطاولة والشطرنج.. ومجلات ميكي وسمير والمغامرون الخمسة...
وبعدما حلقت بنا في الأعالي، لنقرأ عن قمة الرفاهية والسعادة والترف، إذا بها تهبط بنا إلى الحضيض .. حيث البؤس والشقاء والأسي.. قسوة الإنسان وظلمه... آلام وعذابات المرض الوحش والكيماوي.. وبصيص أمل خافت بالكاد يولد من رحم اليأس.
ما يزال العنوان الذي اصطدته كما هو.. لكننا بلغنا القصة التي تسمت المجموعة بعنوانها.. "ملاذ"، وهي عن امرأة تجد ألبوم صور الأسرة القديم، لتقضي مع الصور ليلتها.. الصور، كم تحبها وتعشق التقاطها.. الصورة لقطة نادرة كتحفة نادرة سرقت من الزمن.. تختطف خلسة لحظة من العمر مع لمحة من المكان.. لحظة مؤطرة بكل ملابساتها تبقى دليلًا شاهدًا على أننا عشنا هنا وكانت لنا حياة وقصة وأحداث تستحق أن تروي.. كل أفراد العائلة وأجيالها وأحداثها وسنواتها وفصولها وذكرياتها هنا في هذا الألبوم...
وفي ختمتها كتبت المؤلفة: "الذكريات ملاذ.. هوية.. متعة.. وألم.. وهل المتعة إلا ألم جميل؟!
عندئذ أطلقت العنان لفكري أتأمل فيما قرأت، والأفكار والرسائل التي كتبت، وتنويعة الشخصيات والنماذج الإنسانية التي أبدعتها المؤلفة.. كما رحت أتفكر في الأسلوب الفذ الذي تمارسه في إحكام المناسبة بين الشخصيات والذكريات في الأجواء والخلفيات المختلفة.. كل هذا دفعني لأقول: أكاد أجزم أن هذه المؤلفة قد اكتشفت منجمًا للذكريات لا ينضب.. وهكذا سجلت الصيد (العنوان) الجديد:
منجم ذكريات ينتج ألف قصة وقصة
*****
تكشف المجموعة عن مهارة وقدرة كاتبتها على السرد المنطلق والصياغة المحكمة.. منجم ذكريات وحكايات وشخصيات مدهشة... وحس إنساني يلمسه القارئ في كل فكرة أو ذكري.. كما أن بساطة الحكى وقدرة المؤلفة علي تطويع اللغة وأسلوبها الجزل، كل هذه عناصر تمنح المجموعة تنوعها وحيويتها.
إننا حقًا أمام تجربة أدبية قوية وثرية، صاغتها وقدمتها لنا الكاتبة المتميزة: زينب الفضالي. فشكرًا لها على قصصها، والشكر الأكبر لها علي ينابيع الذكريات التي فجرتها للقراء، وراح كل قارئ إلى عالمه بعب من متعة ذكرياته الخاصة به عبًا.