دع سلوكك يتحدث عنك.
موكا سيتي : سيرة ذاتية لتاريخ القهوة
نبذة عن الرواية
تقدم لنا رواية "موكا سيتي" وصفاً وضَخّاً معلوماتيأّ، وتوثيقياّ، وتسجيلياّ، لتاريخ البن اليمني، وموانئه، ومقاهيه، وأماكن مروره في أنحاء العالم .. وتسهب الرواية حوارياً - عبر شخصياتها - في الحديث عن زمنيات تأسيس المقاهي في العالم، وتاريخ نشوئها، ومناطقها، والتنافس العالمي (الأوروبي) على تدفق البن اليمني لأراضيها، وتحكي عن علاقة القهوة بالتصوف، والمتصوفين، وأول من شرب القهوة، ومن اكتشف البن من المتصوفة اليمنيين.. كما تثير قضايا فلسفية، لأشهر المتصوفة في اليمن، كمتصوفي المذهب الشاذلي، وابن علوان، وغيره ..عن الطبعة
- نشر سنة 2022
- 204 صفحة
- [ردمك 13] 9781005984397
- دار عناوين بوكس
تحميل وقراءة الرواية على تطبيق أبجد
تحميل الكتابمراجعات
كن أول من يراجع الكتاب
-
صالح أبو عدي
رواية موكا سيتى
تستدرج الماضى لتدين ثقافة كراهية اليوم
أن تمتعك رواية مختلفة بأسلوب وفكر كاتبها، وقد ذهب بك بعيدًا، إلى قرون خلت، وما تعيشه من حياة مختلفة عن حياة اليوم، فلا ملابس مثل ملابسك، ولا طعام هو طعامك، ولا سيارات أو طائرات أو سكك حديد، ولا إذاعة أو هاتف أو تليفزيون، ولا شبكات تواصل اجتماعى فى زمن ومجتمع هذه الرواية، فمعنى ذلك أن الكاتب قد نجح بجذبك، بل وزرعك، وسط مجتمع روايته المدهش، لتعيش لحظات فارقة مع قراءتها.
«طابت ليالى فى شط المخا، غرباء جئنا نرتجى ثم الرخاء، إن الضيوف بأرضنا هم سادة، والطَّيّب الوافى يصير لنا أخا»، تلك الأبيات آخر ما سطرها الكاتب فى نهاية الرواية لتقدم روح تلك المدينة.. «كان التنافس شديدًا خصوصًا من قبل المصريين ووكلائهم، وكذلك التجار من جدة، وبعض الأتراك، كما أن هناك قلة من الفرس والأكراد إلى جانب الهنود والإنجليز ومارك الهولندى، كانت مدينة بيت الفقيه تضم العالم كله وتغذى العالم من خيرات اليمن وتمنح الآفاق رائحة البن اللذيذ كأكبر سوق للبن فى العالم»، تلك السوق الكبيرة التى ينقل إليها البن من أسواق الجبال فى حجة وريمة، كسوق الصلبة، الحدية، وعلوبة، وأسواق أخرى منتشرة، ومن بيت الفقيه يتم نقله إلى موانئ عدة، لكنها المخا، ميناء البن الرئيسى، تستحوذ على تصديره إلى كافة القارات، حيث الوكالات ومكاتب الشركات هناك.
مدن إنسانية، نفتقر إلى مثلها فى حياتنا وفى وطننا الحاضر، إذ إن الآخر أصبح لدينا الآن هو العدو، وهو الباطل ونحن الحق.. وذلك بفضل الفهم الخاطئ لديننا الذى يستخدمه الرعاع من الفقهاء، ويحولونه إلى دين رافض ومكفر لما عداه.
اعتمد الكاتب على البحث والتقصى، لينتج رواية تاريخية بامتياز، حيث يظهر من خلال الكم الهائل للمعلومات التاريخية الدقيقة، أن الكاتب بذل جهدًا كبيرًا قبل أن يبدأ بصياغة هذا العمل الثرى بجوانبه الموضوعية، والرائع فنيًا.
حين بدأت بقراءة الرواية لم أجد ما يشير إلى نشاط كاتبها الأدبى ولا نتاجه، لأعرف لاحقًا أنه أصدر قبل هذا العمل رواية أخرى بعنوان «السلاحف العرجاء»، وكذلك له نشاط أدبى متواصل، وكم أتمنى على دور النشر حين تصدر لكتّابها أعمالهم أن تفسح مساحة صغيرة للتعريف بهم أدبيًا، سواء فى الغلاف الأخير، أو على إحدى صفحات العمل الأخيرة.
«موكا سيتى» أو مدينة المخا، زرتها قبل أكثر من عشر سنوات، أكثر من مرة، وجدتها بقايا مدينة مهملة، بميناء صغير لقوارب الصيادين، ما رأيته لا يشابه ما جاء فى هذه الرواية، لمدينة بحركتها التجارية، وتنوع البشر من مختلف القارات، سوق تجارية نشطة بمكاتب ووكالات تجارية ومتاجر ومخازن لتخزين السلع، وأسواق ومقاه ومشارب، وميناء ترسو فيه سفن كبيرة بقياس ذلك الزمن، سفن تجارية تجوب بحار العالم، ناقلة السلع المختلفة.
الكاتب صور فى مشاهد سردية دقيقة، إيقاع سوق المخا، عوالم المدينة بجوانبها الدينية المتمثلة بجامع الشاذلى، ودوره فى أوساط المجتمع، وتلك اللقاءات بين المقيمين الأوروبيين من العاملين فى الوكالات التجارية، ومشاهد صفقات بيع وشراء، وكذلك رحلات بين أسوق البن فى تهامة وحتى الجبال العالية، لقاء مارك بحاكم المخا، ولقاء صابر بالصائغ اليهودى فى ذباب، مشاهد ذلك الصراع المحتدم بين الأئمة، بداية من المحطورى، مرورًا بسلاطين البيضاء ويافع، ونهاية بإمام المواهب وغيرهم، سلاحهم التكفير لمن يخرج عن طاعتهم «وللإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم فتوى شهيرة باعتبار أراضى اليمن الأسفل أرض كفار، بسبب ولائهم لحكم الأتراك، فهم إذًا كفار بالتأويل»، بل وتعامل الإمام بعد انتزاعهم من الأتراك معاملة سكان خيبر، وتغيير زكاة المال المفروضة عليهم من عشرية كما هى على المسلمين، إلى خراج كما هى على غير المسلمين، إلى آخر تلك المشاهد التى تجعل القارئ يرى بعين سينمائية ما يعتمل على أرض واقع ذلك الزمن.
وقد اختار الكاتب «صابر» الفتى اليافعى كشخصية محورية لهذا العمل، ثم «مارك» الهولندى، أحد موظفى شركة الهند الشرقية الهولندية، كشخصية أخرى رئيسية، لتتوالى بعد ذلك أسماء الشخصيات الثانوية، من «روبير» القبطان الفرنسى، إلى «سايمون» الإنجليزى، والبافارى «فريدريك»، والشيخ طه إمام مسجد الشاذلى، إلى «سوراجى» البانيانى، والحاج أيوب العريقى، تاجر بن، وعم الفتى صابر، الذى يعمل فى السوق وشخصيات ثانوية أخرى.
الرواية قدمت اليمن كوطن لا يشابه نفسه فى الوقت الحاضر إلا فيما يتعلق بالتناحر المذهبى على المال والسلطة، ليبرز البن كعنصر سحرى جلب الجميع من الشرق والغرب إلى مائدته، بل وجعل من داخل اليمن من أطراف الحجاز وحتى صحراء الربع الخالى شرقًا يعملون فى هذا المجال.
رواية فى مائتى صفحة، توزعتها ثمانية عناوين: المكتب الهولندى فى المخا، ويحكى هذا الفصل بداية تعارف صابر الصبى اليمنى، والهولندى مارك، بعد رؤيته على حماره، وتلك العلاقة بين الحيوان والصبى التى نبهت الهولندى إلى روح صابر الإنسانية، ليقترب ويتعرف عليه، ويدعوه للعمل كمساعد له فى وظيفته بفرع الشركة فى المخا، والمهتمة بتجارة البن، ومن ساعاتها ينطلق صابر إلى عالم لم يألفه من قبل، وسط عدد من غير اليمنيين ممن يعملون فى الشركة وأصدقاء مارك.
فيما عالج الفصل، الذى عنونه الكاتب بـ «نيوتن»، البدايات التى انتشرت فيها مقاهى البن فى العالم، حيث جاء ذكر نيوتن من باب التفاخر من أحد مواطنيه، وأثر البن على هذا العالم الكبير، وهكذا نجد بقية الفصول، من فصل البن اليمنى، إلى فصل طريق البن العالمى، وكذلك فصل بعنوان فرار حول موانى البن، إلى فصل «المسير إلى بيت الفقيه»، الذى يحكى عن أسواق البن، بداية من الجبال فى حجة، مرورًا بصابية أقصى شمال تهامة، وسوق بيت الفقيه التى وصفت بأنها أكبر أسواق البن آنذاك، إلى طرح ما يدور فى تلك الأسواق والتأثيرات المحلية من حرب المحطورى، إلى نهايته، وكذلك التنافس العالمى، ثم تلك المشاهد على متن السفينة «بيرين»، ونبوءة اليهودى «يائير»، ووطن البن.
هناك عدة أدوات فنية استخدمها الكاتب لحبك روايته وتشويق القارئ ودفعه لقراءتها، منها ذلك الخلاف بين صابر وعمه الجشع، ثم تلك الميول العاطفية لصابر نحو جارته، التى كان يراقبها من شيش نافذته، أثناء ممارستها لأعمالها المنزلية ظانا منه أنها لا تراه، ليكتشف بعد حين أنها تعرف تلصصه عليها وتسعد بذلك، ويعرف لاحقًا بحكايتها وزواجها من رجل مسن على شفا القبر، ولذلك ظلت تحلم بالانعتاق، أن ترتبط بحب مع شاب فى سنها، إلى جانب تلك العلاقة المضطربة بين الحاكم والتجار، ومنهم موظفو الشركة الهولندية.
جاءت أحداث رواية «موكا سيتى» بأسلوب سلسلة الأحداث المترابطة، وتلك العلاقات المتوترة، مظهرة الكم الهائل من المعرفة التاريخية التى يمتلكها «سمير محمد»، الذى استطاع التخلص من تقريريتها من خلال ما عاشه صابر، الفتى الأمين المتدين الذى تحاول أهواء الشباب جذبه، ولكنه دومًا ما كان يتغلب عليها.
ومن الجوانب الموضوعية التى تميزت بها الرواية الصراع على السلطة، كما أن الجميع كانوا يرفعون شعارات دينية، وكأن ما نعيشه اليوم هو نسخة مشوهة لصراع تلك الأزمنة، وأن الحاكم لا يهمه من الناس إلا الجباية، كحق إلهى، بينما ليس عليه أى واجب تجاه من يتحكم بهم، وبذلك ظهر الحاكم تاجرًا، وتجارته دين الله، واستعباد الخلق به.
تلك العلاقة بين صابر ومارك هى جوهر أو رسالة هذه الرواية، فقد شكلا ثنائيًا جميلًا، بالمقابل كانت العلاقة السيئة بين صابر وعمه، والتى وصلت إلى درجة محاولة العم قتل صابر ومارك «فقام عمه برمى الخنجر الذى أصاب صابر إصابة بجانب الترقوة فسقط صابر على الأرض ليجرى مارك لاحتضانه وهو يخشى أن تكون الطعنة قاتلة، استغل عم صابر ما حدث وهرب.. يلوم مارك، صابر على تصرفه الذى كان سيؤدى بحياته، لكن صابر قال له: لم أعرف أبى إلا قليلًا فى سنوات عمرى الأولى فى طفولتى، وليس لى أخ، ولم أكن أعرف معنى الأبوة أو الأخوة حتى تعرفت عليك... »، هنا تتجلى روح الإنسانية الحقة.
كما رصدت الرواية تهجير اليهود من صنعاء، فى قرار غير إنسانى لإمام ما كان يهمه إلا النهب والتملك، إلى جانب عودتهم ونبذهم فى حى خارج صنعاء، وهو قاع اليهود الذى احتوته المدينة بعد تمددها.
بالإضافة لذلك قدمت مأساة الأخدام وجذور حكايتهم، فبعد أن كان حكام زبيد يجلبون من يخدمهم من زيلع، على الجانب الآخر، من البر الإفريقى كخدم وعسكر، تحول الأمر مع الأيام ليسيطر الأخدام على السلطة، بداية بشخص اسمه النجاحى، وبذلك سميت السلطنة باسمه، الدولة النجاحية، حكموا تهامة عقودًا طويلة حتى خرج عليهم الرعينى لينظم الناس، ويدفعهم للثورة عليهم، وبذلك انقلبت الكفة وتحول النجاحيون إلى خدم مشردين، وإلى مهمشين حتى يومنا، حيث لم يحاول أى نظام حكم هذا البلد بمساعدتهم لاسترجاع قيمتهم الإنسانية، التى ظلت مهدورة فى وضع لا يرضى الله ولا الضمير الإنسانى.
جغرافية الرواية لم تقتصر على المخا كما هو العنوان، بل امتدت لتشمل جنوب الجزيرة العربية، من المخا إلى مدن تهامة وحتى الحجاز، وشرقًا إلى الجبال وما يعتمل فيها من تغيرات فى حجة وصنعاء وذمار إلى البيضاء ويافع العليا والسفلى، وإلى عدن وما هو أبعد من عدن، حتى البر الإفريقى، والهند وشرق آسيا وشمال ووسط أوروبا.
وقد طعّم الكاتب روايته بقصائد وحكايات لشخصيات ذلك الزمن، من علماء وقادة وأئمة وسلاطين وأحبار، مثل عفيف الدين اليافعى، وجوست فان دين فاندل الهولندى، والحاخام سالم الشبزى، والهولندى أدريان فاليريوس، ويحيى عمر اليافعى، بالإضافة لابتهالات عدد من الأولياء الصالحين.
حفلت الرواية بعدد وافر من الحكايات المميزة والمختلفة، وإن ظلت الروح التى غمرتها بحب الوطن الكبير هى رسالتها، وحب القيم الإنسانية ونبذ التعصب والمناطقية والظلم.
لقد قامت هذه الرواية بعقد محاكمة سردية لعصرنا الحالى، من خلال استعراض حياة عصر مضى، لنظهر كأننا لم نبرح مكاننا، بينما أمم الأرض تجاوزت تخلفها، لتسير نحو آفاق التطور والقيم الإنسانية العظيمة.
أخيرًا فإن رواية «موكا سيتى» ملحمة إنسانية فى صفحات شيقة.
-
سارة صيداوي
رواية موكا سيتى
تستدرج الماضى لتدين ثقافة كراهية اليوم
القاهرة: المصري اليوم |
أن تمتعك رواية مختلفة بأسلوب وفكر كاتبها، وقد ذهب بك بعيدًا، إلى قرون خلت، وما تعيشه من حياة مختلفة عن حياة اليوم، فلا ملابس مثل ملابسك، ولا طعام هو طعامك، ولا سيارات أو طائرات أو سكك حديد، ولا إذاعة أو هاتف أو تليفزيون، ولا شبكات تواصل اجتماعى فى زمن ومجتمع هذه الرواية، فمعنى ذلك أن الكاتب قد نجح بجذبك، بل وزرعك، وسط مجتمع روايته المدهش، لتعيش لحظات فارقة مع قراءتها.
«طابت ليالى فى شط المخا، غرباء جئنا نرتجى ثم الرخاء، إن الضيوف بأرضنا هم سادة، والطَّيّب الوافى يصير لنا أخا»، تلك الأبيات آخر ما سطرها الكاتب فى نهاية الرواية لتقدم روح تلك المدينة.. «كان التنافس شديدًا خصوصًا من قبل المصريين ووكلائهم، وكذلك التجار من جدة، وبعض الأتراك، كما أن هناك قلة من الفرس والأكراد إلى جانب الهنود والإنجليز ومارك الهولندى، كانت مدينة بيت الفقيه تضم العالم كله وتغذى العالم من خيرات اليمن وتمنح الآفاق رائحة البن اللذيذ كأكبر سوق للبن فى العالم»، تلك السوق الكبيرة التى ينقل إليها البن من أسواق الجبال فى حجة وريمة، كسوق الصلبة، الحدية، وعلوبة، وأسواق أخرى منتشرة، ومن بيت الفقيه يتم نقله إلى موانئ عدة، لكنها المخا، ميناء البن الرئيسى، تستحوذ على تصديره إلى كافة القارات، حيث الوكالات ومكاتب الشركات هناك.
مدن إنسانية، نفتقر إلى مثلها فى حياتنا وفى وطننا الحاضر، إذ إن الآخر أصبح لدينا الآن هو العدو، وهو الباطل ونحن الحق.. وذلك بفضل الفهم الخاطئ لديننا الذى يستخدمه الرعاع من الفقهاء، ويحولونه إلى دين رافض ومكفر لما عداه.
اعتمد الكاتب على البحث والتقصى، لينتج رواية تاريخية بامتياز، حيث يظهر من خلال الكم الهائل للمعلومات التاريخية الدقيقة، أن الكاتب بذل جهدًا كبيرًا قبل أن يبدأ بصياغة هذا العمل الثرى بجوانبه الموضوعية، والرائع فنيًا.
حين بدأت بقراءة الرواية لم أجد ما يشير إلى نشاط كاتبها الأدبى ولا نتاجه، لأعرف لاحقًا أنه أصدر قبل هذا العمل رواية أخرى بعنوان «السلاحف العرجاء»، وكذلك له نشاط أدبى متواصل، وكم أتمنى على دور النشر حين تصدر لكتّابها أعمالهم أن تفسح مساحة صغيرة للتعريف بهم أدبيًا، سواء فى الغلاف الأخير، أو على إحدى صفحات العمل الأخيرة.
«موكا سيتى» أو مدينة المخا، زرتها قبل أكثر من عشر سنوات، أكثر من مرة، وجدتها بقايا مدينة مهملة، بميناء صغير لقوارب الصيادين، ما رأيته لا يشابه ما جاء فى هذه الرواية، لمدينة بحركتها التجارية، وتنوع البشر من مختلف القارات، سوق تجارية نشطة بمكاتب ووكالات تجارية ومتاجر ومخازن لتخزين السلع، وأسواق ومقاه ومشارب، وميناء ترسو فيه سفن كبيرة بقياس ذلك الزمن، سفن تجارية تجوب بحار العالم، ناقلة السلع المختلفة.
الكاتب صور فى مشاهد سردية دقيقة، إيقاع سوق المخا، عوالم المدينة بجوانبها الدينية المتمثلة بجامع الشاذلى، ودوره فى أوساط المجتمع، وتلك اللقاءات بين المقيمين الأوروبيين من العاملين فى الوكالات التجارية، ومشاهد صفقات بيع وشراء، وكذلك رحلات بين أسوق البن فى تهامة وحتى الجبال العالية، لقاء مارك بحاكم المخا، ولقاء صابر بالصائغ اليهودى فى ذباب، مشاهد ذلك الصراع المحتدم بين الأئمة، بداية من المحطورى، مرورًا بسلاطين البيضاء ويافع، ونهاية بإمام المواهب وغيرهم، سلاحهم التكفير لمن يخرج عن طاعتهم «وللإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم فتوى شهيرة باعتبار أراضى اليمن الأسفل أرض كفار، بسبب ولائهم لحكم الأتراك، فهم إذًا كفار بالتأويل»، بل وتعامل الإمام بعد انتزاعهم من الأتراك معاملة سكان خيبر، وتغيير زكاة المال المفروضة عليهم من عشرية كما هى على المسلمين، إلى خراج كما هى على غير المسلمين، إلى آخر تلك المشاهد التى تجعل القارئ يرى بعين سينمائية ما يعتمل على أرض واقع ذلك الزمن.
وقد اختار الكاتب «صابر» الفتى اليافعى كشخصية محورية لهذا العمل، ثم «مارك» الهولندى، أحد موظفى شركة الهند الشرقية الهولندية، كشخصية أخرى رئيسية، لتتوالى بعد ذلك أسماء الشخصيات الثانوية، من «روبير» القبطان الفرنسى، إلى «سايمون» الإنجليزى، والبافارى «فريدريك»، والشيخ طه إمام مسجد الشاذلى، إلى «سوراجى» البانيانى، والحاج أيوب العريقى، تاجر بن، وعم الفتى صابر، الذى يعمل فى السوق وشخصيات ثانوية أخرى.
الرواية قدمت اليمن كوطن لا يشابه نفسه فى الوقت الحاضر إلا فيما يتعلق بالتناحر المذهبى على المال والسلطة، ليبرز البن كعنصر سحرى جلب الجميع من الشرق والغرب إلى مائدته، بل وجعل من داخل اليمن من أطراف الحجاز وحتى صحراء الربع الخالى شرقًا يعملون فى هذا المجال.
رواية فى مائتى صفحة، توزعتها ثمانية عناوين: المكتب الهولندى فى المخا، ويحكى هذا الفصل بداية تعارف صابر الصبى اليمنى، والهولندى مارك، بعد رؤيته على حماره، وتلك العلاقة بين الحيوان والصبى التى نبهت الهولندى إلى روح صابر الإنسانية، ليقترب ويتعرف عليه، ويدعوه للعمل كمساعد له فى وظيفته بفرع الشركة فى المخا، والمهتمة بتجارة البن، ومن ساعاتها ينطلق صابر إلى عالم لم يألفه من قبل، وسط عدد من غير اليمنيين ممن يعملون فى الشركة وأصدقاء مارك.
فيما عالج الفصل، الذى عنونه الكاتب بـ «نيوتن»، البدايات التى انتشرت فيها مقاهى البن فى العالم، حيث جاء ذكر نيوتن من باب التفاخر من أحد مواطنيه، وأثر البن على هذا العالم الكبير، وهكذا نجد بقية الفصول، من فصل البن اليمنى، إلى فصل طريق البن العالمى، وكذلك فصل بعنوان فرار حول موانى البن، إلى فصل «المسير إلى بيت الفقيه»، الذى يحكى عن أسواق البن، بداية من الجبال فى حجة، مرورًا بصابية أقصى شمال تهامة، وسوق بيت الفقيه التى وصفت بأنها أكبر أسواق البن آنذاك، إلى طرح ما يدور فى تلك الأسواق والتأثيرات المحلية من حرب المحطورى، إلى نهايته، وكذلك التنافس العالمى، ثم تلك المشاهد على متن السفينة «بيرين»، ونبوءة اليهودى «يائير»، ووطن البن.
هناك عدة أدوات فنية استخدمها الكاتب لحبك روايته وتشويق القارئ ودفعه لقراءتها، منها ذلك الخلاف بين صابر وعمه الجشع، ثم تلك الميول العاطفية لصابر نحو جارته، التى كان يراقبها من شيش نافذته، أثناء ممارستها لأعمالها المنزلية ظانا منه أنها لا تراه، ليكتشف بعد حين أنها تعرف تلصصه عليها وتسعد بذلك، ويعرف لاحقًا بحكايتها وزواجها من رجل مسن على شفا القبر، ولذلك ظلت تحلم بالانعتاق، أن ترتبط بحب مع شاب فى سنها، إلى جانب تلك العلاقة المضطربة بين الحاكم والتجار، ومنهم موظفو الشركة الهولندية.
جاءت أحداث رواية «موكا سيتى» بأسلوب سلسلة الأحداث المترابطة، وتلك العلاقات المتوترة، مظهرة الكم الهائل من المعرفة التاريخية التى يمتلكها «سمير محمد»، الذى استطاع التخلص من تقريريتها من خلال ما عاشه صابر، الفتى الأمين المتدين الذى تحاول أهواء الشباب جذبه، ولكنه دومًا ما كان يتغلب عليها.
ومن الجوانب الموضوعية التى تميزت بها الرواية الصراع على السلطة، كما أن الجميع كانوا يرفعون شعارات دينية، وكأن ما نعيشه اليوم هو نسخة مشوهة لصراع تلك الأزمنة، وأن الحاكم لا يهمه من الناس إلا الجباية، كحق إلهى، بينما ليس عليه أى واجب تجاه من يتحكم بهم، وبذلك ظهر الحاكم تاجرًا، وتجارته دين الله، واستعباد الخلق به.
تلك العلاقة بين صابر ومارك هى جوهر أو رسالة هذه الرواية، فقد شكلا ثنائيًا جميلًا، بالمقابل كانت العلاقة السيئة بين صابر وعمه، والتى وصلت إلى درجة محاولة العم قتل صابر ومارك «فقام عمه برمى الخنجر الذى أصاب صابر إصابة بجانب الترقوة فسقط صابر على الأرض ليجرى مارك لاحتضانه وهو يخشى أن تكون الطعنة قاتلة، استغل عم صابر ما حدث وهرب.. يلوم مارك، صابر على تصرفه الذى كان سيؤدى بحياته، لكن صابر قال له: لم أعرف أبى إلا قليلًا فى سنوات عمرى الأولى فى طفولتى، وليس لى أخ، ولم أكن أعرف معنى الأبوة أو الأخوة حتى تعرفت عليك... »، هنا تتجلى روح الإنسانية الحقة.
كما رصدت الرواية تهجير اليهود من صنعاء، فى قرار غير إنسانى لإمام ما كان يهمه إلا النهب والتملك، إلى جانب عودتهم ونبذهم فى حى خارج صنعاء، وهو قاع اليهود الذى احتوته المدينة بعد تمددها.
بالإضافة لذلك قدمت مأساة الأخدام وجذور حكايتهم، فبعد أن كان حكام زبيد يجلبون من يخدمهم من زيلع، على الجانب الآخر، من البر الإفريقى كخدم وعسكر، تحول الأمر مع الأيام ليسيطر الأخدام على السلطة، بداية بشخص اسمه النجاحى، وبذلك سميت السلطنة باسمه، الدولة النجاحية، حكموا تهامة عقودًا طويلة حتى خرج عليهم الرعينى لينظم الناس، ويدفعهم للثورة عليهم، وبذلك انقلبت الكفة وتحول النجاحيون إلى خدم مشردين، وإلى مهمشين حتى يومنا، حيث لم يحاول أى نظام حكم هذا البلد بمساعدتهم لاسترجاع قيمتهم الإنسانية، التى ظلت مهدورة فى وضع لا يرضى الله ولا الضمير الإنسانى.
جغرافية الرواية لم تقتصر على المخا كما هو العنوان، بل امتدت لتشمل جنوب الجزيرة العربية، من المخا إلى مدن تهامة وحتى الحجاز، وشرقًا إلى الجبال وما يعتمل فيها من تغيرات فى حجة وصنعاء وذمار إلى البيضاء ويافع العليا والسفلى، وإلى عدن وما هو أبعد من عدن، حتى البر الإفريقى، والهند وشرق آسيا وشمال ووسط أوروبا.
وقد طعّم الكاتب روايته بقصائد وحكايات لشخصيات ذلك الزمن، من علماء وقادة وأئمة وسلاطين وأحبار، مثل عفيف الدين اليافعى، وجوست فان دين فاندل الهولندى، والحاخام سالم الشبزى، والهولندى أدريان فاليريوس، ويحيى عمر اليافعى، بالإضافة لابتهالات عدد من الأولياء الصالحين.
حفلت الرواية بعدد وافر من الحكايات المميزة والمختلفة، وإن ظلت الروح التى غمرتها بحب الوطن الكبير هى رسالتها، وحب القيم الإنسانية ونبذ التعصب والمناطقية والظلم.
لقد قامت هذه الرواية بعقد محاكمة سردية لعصرنا الحالى، من خلال استعراض حياة عصر مضى، لنظهر كأننا لم نبرح مكاننا، بينما أمم الأرض تجاوزت تخلفها، لتسير نحو آفاق التطور والقيم الإنسانية العظيمة.
أخيرًا فإن رواية «موكا سيتى» ملحمة إنسانية فى صفحات شيقة.
****
-
سالم الكثيري
“الخنفس: بورتريهات الصراع بين الهوية والفساد في اليمن المضطرب”
رواية الخنفس للكاتب والشاعر سمير محمد تمثل عملاً أدبياً فريداً، يجمع بين البعد النفسي والاجتماعي والسياسي لتقديم رؤية مركبة عن واقع يمني مليء بالتناقضات. تبدأ الرواية من نظرة ذاتية تتسع لتشمل قراءة متعمقة لتاريخ اليمن السياسي والاجتماعي، وهو ما يجعلها عملًا غنيًا بتحليل العلاقات الإنسانية ومآلاتها في ظل تحولات كبرى.
من حيث الأسلوب، تتسم الرواية بواقعية نقدية تجمع بين الواقعية التقليدية وعمق النفس البشرية، مستخدمة السرد النفسي بوصفه تقنية أساسية. يعكس السرد التداعي الحر للأفكار، حيث تتقاطع الذكريات والمواقف الآنية في مشاهد متداخلة، ما يتيح للقارئ أن يعيش تفاصيل الأحداث بعمق. شخصية البطل “حسين” تُستخدم هنا كعدسة تحليلية تُسلط الضوء على الصراعات الداخلية والخارجية التي يواجهها الفرد في بيئة قاسية وغير مستقرة.
تُبرز الرواية بوضوح صراع الخير والشر في داخل شخصية حسين. تظهر شخصية حسين كمثال حي للاضطراب النفسي الذي ينشأ من تداخل العوامل الذاتية (مثل الطموح غير المشروع والحقد) مع الظروف الخارجية (مثل الفقر والظلم الاجتماعي). يتجلى هذا الصراع في تبرير حسين لأفعاله غير الأخلاقية بأنه ضحية قدر محتوم، مما يعكس حالة من الإنكار الداخلي. وفقاً لمنهج التحليل النفسي لفرويد، فإن حسين يعاني من تصادم قوي بين الهو (المتمثل في رغبته الجامحة في السيطرة) والأنا الأعلى (التي تُحمّله المسؤولية الأخلاقية). هذا التوتر النفسي يجعله شخصية متذبذبة وغير مستقرة، تتخذ قرارات مبنية على الانتقام والحسد.
تظهر الرواية كوثيقة اجتماعية تسلط الضوء على تفكك البنى الاجتماعية التقليدية في اليمن، خاصة في ظل التحولات التي شهدتها عدن. المدينة هنا ليست مجرد خلفية للأحداث، بل شخصية بحد ذاتها، تعكس حالة الاضطراب والتحول من كوزموبوليتانية منفتحة إلى فضاء تسوده الصراعات الطبقية والسياسية. عدن تُصوَّر كمدينة مفتوحة للقادمين من الريف، وهو ما يخلق توتراً دائماً بين الهويات المختلفة. من خلال هذا التوتر، تعرض الرواية نقداً حاداً للسلطة، التي تتحول إلى أداة قهر للأفراد، وتعكس استغلال النخب السياسية للصراعات الإقليمية والمناطقية لتحقيق مكاسب شخصية.
الرواية تصور صراعات الطبقة الحاكمة والطبقات المهمشة. حسين، الذي يصعد عبر علاقات متشابكة بين الفساد والانتهازية، يمثل فرداً يتطلع للصعود الاجتماعي عبر وسائل غير مشروعة، مما يسلط الضوء على التفاوت الاجتماعي واستغلال السلطة
من خلال قراءة الرواية وفق منظور ما بعد الكولونيالية، نرى كيف تعكس التحولات في عدن آثار الاستعمار البريطاني، ثم محاولات بناء هوية وطنية جديدة بعد الاستقلال. تُظهر الرواية كيف أدى الاستعمار إلى تأسيس منظومة اقتصادية واجتماعية قائمة على التفاوت، وهو ما استمر حتى بعد رحيله. يُبرز الكاتب هذا الإرث من خلال شخصيات مثل حسين، التي تعيش حالة من الضياع بين إرث استعماري ثقيل وتحديات بناء ذات مستقلة.
الرمزية في الرواية تلعب دوراً مهماً في إيصال الرسائل الخفية. يُمكن اعتبار اسم الرواية “الخنفس” رمزاً للانحطاط الذي يتخفى خلف قشرة مزيفة من الحداثة والتمدن. يعكس العنوان شخصية حسين، الذي يظهر بمظهر متأنق ومواكب للموضة، لكنه في الداخل يعاني من فساد أخلاقي. هذه الثنائية بين المظهر والجوهر تتكرر في وصف مدينة عدن، التي تبدو كمدينة مزدهرة في ظاهرها، لكنها تموج بالصراعات الداخلية التي تكشف عن هشاشتها.
لا يمكن فصل الرواية عن سياقها السياسي. تُبرز الخنفس نقداً واضحاً للنظام السياسي في اليمن في فترة ما بعد الاستقلال، حيث تسيطر النخب الريفية المسلحة على المدينة وتفرض نظاماً قائماً على القوة والهيمنة. توظف الرواية شخصيات مثل حسين وزوجته “ليلى” لتقديم صورة مصغرة عن الصراع على النفوذ داخل الأسرة، كمرآة للصراع الأكبر على السلطة في البلاد. يمكن قراءة الرواية كتشريح نقدي لفشل المشاريع الوطنية في تحقيق العدالة والمساواة، وتحولها إلى أدوات قمع جديدة.
السيميائية في الرواية بارزة من خلال استخدام الكاتب للرموز بشكل متكرر. شخصية “أشجان”، التي يرتبط بها حسين بعلاقة معقدة، تمثل الحلم أو الأمل الذي يسعى إليه البطل، لكنها في الوقت ذاته تعكس الوهم الذي يدفعه إلى السقوط في دائرة الفساد الأخلاقي. كذلك، الملابس التي يسرقها حسين لاستخدامها في السحر ترمز إلى التلاعب بالمصائر، ما يفتح باباً واسعاً للنقاش حول القدر والإرادة الإنسانية.
اللغة في الخنفس تجمع بين التقريرية والشعرية. السرد يحمل بُعداً وصفياً دقيقاً يعكس البيئة المكانية والاجتماعية، مع استخدام عبارات موجزة وشديدة التعبير عند وصف الصراعات الداخلية. في بعض الأحيان، يميل الكاتب إلى الإطناب، خاصة في الأجزاء المتعلقة بوصف الماضي، ما قد يُضعف من إيقاع النص. لكن هذا الإطناب يخدم في بناء العالم الروائي، حيث يمنح القارئ فرصة لفهم السياقات المختلفة. أما من حيث أسلوب السرد، تتبنى الرواية تقنيات السرد الحداثي مثل التداعي الحر للذكريات، والانتقال بين الأزمنة المختلفة. يُشبه السرد أسلوب فيرجينيا وولف في التدفق الداخلي للأفكار، مع تركيز على التفاصيل الدقيقة والرمزية. تمثل شخصية حسين رمزاً للإنسان المنقسم بين حيوانيته وقيمه الإنسانية.
فاللغة في الخنفس تتراوح بين التقريرية الشعرية واللغة البسيطة اليومية، مما يضع القارئ في حالة توازن بين الخيال والواقع. ومع ذلك، تميل بعض الأجزاء إلى الإطناب، ما قد يُضعف من قوة السرد في بعض المواضع
تُمثل الخنفس عملاً أدبياً غنياً يفتح أفقاً واسعاً للقراءة النقدية. من خلال شخصياتها المركبة وسردها المتداخل، تقدم الرواية دراسة عميقة للنفس البشرية في ظل واقع سياسي واجتماعي مضطرب. تسلط الضوء على قضايا الفساد، والصراعات الطبقية، والتحولات السياسية، مع رسالة نقدية واضحة للنخب التي تخلت عن مسؤولياتها تجاه المجتمع. تعد الرواية إضافة مميزة للأدب اليمني والعربي، وتستحق دراسة معمقة من زوايا مختلفة.
-
emy farid
كتاب أكتر من رائع بجد عرفني جزء من تاريخ اليمن الي ماكنتش اعرف عنه أي حاجة بجد بالإضافة لتاريخ الموكا بشكل عام استمتعت بالرواية من أولها لآخرها وأجمل حاجة فيها التعايش مابين مارك وصابر الي بحبه جدًا مع كل المختلفين الي أؤرفهم خصوصًا الي أعرفهم عن قرب وندم عم صابر معه رغم إنو له ماله وعليه ما عليه بصراحة كمان الأجمل من كل دا إنو الرواية ممتعة من أولءها لآخرها ومافيهاش ولا أي نوع من أنواع الملل مشكورين أبجد على الرواية دي وعيزيَن المزيد من مألفاآ المألف الجمي£ دا وجزاكم الله خيرًا.