"وفي الحقيقة، يُقدم الموت للمرء خدمة جليلة، تُحسب لصالحي في هذه الحالة، إذ يُحرره من أكبر آلامه، بدفن أقرب الناس إلى قلبه، ليصبح بعد ذلك قادراً على مواجهة أي حزن يُخبئه له القدر، لأن الحزن الأكبر صار خلفه."
كلنا نهاب الموت، نخشاه، نقضي حياتنا يوماً وراء يوم، ونحن نتجاهله، ننساه عمداً، ننشغل بالحياة وتقلباتها، وينظر إلينا الموت من الأفق الأعلى، ضاحكاً وساخراً، كم أن البشر يعيشون في كُل هذه التفاهات، ومصيرهم يتجه إليه، مهما حدنا وبعدنا، مهما شعرنا أننا مُحصنون منه، ونجونا بأعجوبة مرات عديدة، ولكن لكل أجل كتاب، سيلاقينا هذا الكائن المُرعب، حتماً سيُلاقينا.
تبدأ رواية "الأفق الأعلى" للكاتبة السعودية "فاطمة عبدالحميد"، بفصل مُفاجئ، وصادم، هذا الموت يُحدثكم، يحكي لكم حكاياته، هو الراوي العليم بالأفق الأعلى، الذي ربما من الملل فقط قرر أن يُشركنا في حكاية "سليمان" الطفل الذي وجد نفسه زوجاً، وأولاده، وكُل تلك السجون التي قُيد بداخلها، حرمانه من اللعب، والطعام، وزواجه لمن تكبره بإحدى عشر عاماً، -أظن إنها المرة الأولى التي أقرأ عن زواج القاصرين ويكون المعني بها ذكراً!- بل ويجب عليه أن يُشاركها فعلاً جنسياً لم يتشكل بعد بداخله، ولا يفقهه، إنه يريد لعب الكرة، فلماذا لا يتحقق له ذلك؟
بالطبع الرواية موضوعها الأساسي هو الموت، بأشكاله العديدة، من خلال حكايات جانبية يقطف بها الموت أرواحاً ويعود سريعاً إلى حكايتنا الأساسية، وحتى تلك الحكايات الجانبية بُذل فيها جهداً لتكون قريبة من الأحداث الرئيسية والشخصيات، مروا بهم أو عملوا معهم، أو يعرفوهم، لتلك الحكاية الأساسية وتطوراتها المجنونة والسعيدة والحزينة، الذي يجعل الموت ينظر للأحداث وشخصياتها المُتناسين وجوده، ولكن مرت الرواية بمواضيع عديدة، مواضيع من كثرة تشابكها وتعددها، تكاد تُجن أن كل تلك المواضيع ذُكرت فقط في رواية مكونة من عدد صفحات أقل من 250! وهنا تبرع الكاتبة التي غزلت كل تلك الحكايات تحت ضفيرة واحدة مُتماسكة، ولكن عندما تنظر إلى كل شعرة واحدة من الضفيرة بمُفردها تجدها جميلة ومُمتعة بمفردها.
نظن أننا نعرف أنفسنا، نظن أننا نفهم الحياة، نظن أن الحياة ستكون برتم مُعين ونمط مُحدد سابقاً، ولكننا نتفاجئ بكل تلك الأشياء المخفية بداخلنا، التي تظهر عندما تختفي قيوداً كُنا مُكبلين بها، قيود يضعها المجتمع والناس والعمل والدولة وإلخ.. وعند سقوط أول قيد، تجد نفسك شخصاً يتصرف بطريقة لا تعرفها، ولكن في نفس الوقت، تظن دائماً أن هذا الشخص هو أنت، الذي ظل كامناً ومختفياً، ينتظر فرصة لينقض.
ختاماً..
كانت رواية "الأفق الأعلى" بمثابة مُفآجأة جميلة، لم أكن أتوقع أنها بهذا المستوى من الثُقل والأبعاد الفلسفية المُتشابكة، والشخصيات المرسومة بدقة، وذات أحداث غنية، وسرد أكثر من رائع، مهيب يليق براوي كالموت، لتصبح هذه الرواية من أفضل ما قرأت في الأدب العربي مؤخراً، أو بشكل عام.
بكل تأكيد يُنصح بها.