#ماراثون_القراءة_مع_بيت_الياسمين
سعادتي بهذا الكتاب لا توصف ولا تقدر، ليس فقط لأنه من تأليف الروائي الكبير المبدع إبراهيم عبد المجيد، ولا لأنه يذكرني بسنين ومشاهد وتجارب عمري التي مضت، ولكن لأنه يلخص لنا العهود الأربعة التي عاشت مصر معها منذ عام 1952، يلخصها في أربع لوحات تشكيلية رسمها بلغته البسيطة -التي ألفناها ونحبها- وفكر صادق مترع بالإخلاص والأمل. عهد ناصر، ومن بعده عهد السادات، ثم عهد مبارك، وأخيرًا عهد ما بعد ثورة 25 يناير. ومن قبل ذلك كله لأنها ذكريات سبعين سنة من عمر الوطن.
ولأنه كاتب محترف ومتمرس وخبير بكل فنون صنعة الكتابة، فلقد وضع محورا جوهريا لذكرياته يتمثل في الإجابة على السؤال: ما الذي أوصل مصر إلى هذا الحال؟ يسأل هذا السؤال في 2022، فتأخذه الإجابة عليه في رحلة بحثية طويلة عبر السنين، أولى محطاتها في يوليو 1952.
*****
بعدما قرأت الكتاب، وأطلقت لفكري العنان لتدبر انطباعاتي وأفكاري عما جاء فيه، قفز إلى ذهني استنتاج يتعلق بتفاوت نظرة وأسلوب الكاتب في السرد من عهد إلى آخر. ففي عهد ناصر غلبت على الذكريات روح الإقرار والاعتراف بالأخطاء والخطايا. بينما في عهد السادات بدت وكأنها تقارير لحقائق ما وقع. ثم في عهد مبارك انغمس المؤلف -محاولًا الانصاف ما استطاع- في فكرة التوازن بين البدايات الواعدة المبشرة بالخير الوفير، والنهايات المحبطة والتي أدت أخيرًا إلى الانفجار. أما عهد ما بعد 25 يناير فالأقرب إلى وصفه أن المؤلف كتب عنه وتراوده وتلح عليه فكرة أنه "شاهد هذا الفيلم من قبل".
*****
في عهد عبد الناصر يقر المؤلف ويعترف بأنه لم يكن لمخلوق أيا كان أن يتحدث في السياسة غير التسبيح بحمد جمال عبد الناصر.. كذلك يعترف أن القوة الناعمة التي بلغت أوجها بعد ثورة 1952، إنما كانت تنتمي بثقافتها الكبيرة إلى الفترة الملكية. واعتراف أهم وأمرّ بأن ثورة يوليو كانت أول خروج على الطريق الديمقراطي، الذي كانت تمشي فيه مصر رغم الملك والاستعمار البريطاني. وتتوالى الاعترافات تترى، وتجئ هزيمة يونيو 1967، فيعلنها صريحة بأن "غياب الديمقراطية هو سبب الهزيمة".. وفي موضع آخر يقر بأن الهزيمة حدثت بسبب انشغال الجيش بالسياسة!! ومرة ثالثة يفسر كل أخطاء الفترة الناصرية إلى عمل العسكريين بالسياسة... وأنها لم تكن أخطاء بل خطيئة أول مظاهرها السجون والمعتقلات.
*****
ثم يجئ أنور السادات، يثقل عاتقه إرث هائل وهو تحرير سيناء. ولا مجال هنا للإقرارات وما إلى ذلك، بل هو ذكر للحقائق واضحة جلية.. وقد بذل المؤلف قصارى جهده ليزيل ما قد يشوبها من غموض أو لبس..
هنا نقرأ عن مولد ظاهرة الإسلام السياسي، والتي بدأها السادات بالإفراج عن المسجونين من جماعة الإخوان المسلمين أيام عبد الناصر، ليضرب بهم جناح اليسار الذي يجمع الناصريين والشيوعيين. بل ويستمر المؤلف في ذكر كيف توالت مظاهر الصبغة الدينية "الوهابية" (هكذا يصفها المؤلف) على حياة المصريين. مثل ارتداء الحجاب وزي الصحراء.. ودعوات رجال الأزهر والشيوخ بالمساجد للترويج للأفكار الوهابية، وكذلك معاركهم الصاخبة التي خاضوها ضد الكتاب وأصحاب الرأي والصحف والمجلات التي كانت تقاوم أفكارهم... والبنوك الإسلامية الوهمية... والدخول في حلف أمريكي سعودي مصري ضد الشيوعية والاتحاد السوفيتي، لتدريب الإسلاميين الجهاديين ليشاركوا في الحرب ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان!.
حقًا لم يكن السادات وقت اغتياله يدرك أخرج الجني من القمقم..
من ناحية أخرى يسهب المؤلف في ذكر خطايا ومظاهر الفساد والنهب التي استشرت مع سياسات "الانفتاح الاقتصادي". ويتحدث أيضًا عن تمثيلية المنابر والأحزاب والديمقراطية الشكلية التي أرسى دعائمها السادات، وما هي إلا عملية نصب على الشعب. كذلك يتطرق الحديث إلى حوادث ظاهرة "الفتنة الطائفية" وأسبابها...
وينهي المؤلف هذا الفصل بقوله: "لقد قدم عبد الناصر للشعب مكاسب اقتصادية واجتماعية وتعليمية، وأجهز على مسيرة الليبرالية، لكن السادات أجهز على الاثنين".
*****
تسلم حسني مبارك دولة نمت فيها جماعات تيار الإسلام السياسي، والمنبثقة جميعها من جماعة الإخوان المسلمين. وظلت الدعوات الوهابية تسيطر على كافة مناحي الحياة. بل تطورت الأمور لتبلغ حدودًا غير مسبوقة من العنف والإرهاب. وامتدت أيادي الإرهاب إلى الشارع الثقافي، في مؤامرات خسيسة تبدأ بتكفير مفكرين وأدباء، مثل فرج فودة ونصر حامد أبو زيد ونجيب محفوظ، وتنتهي باغتيالهم. ويبين لنا المؤلف كيف تورط علماء الأزهر بآراء وفتاوي صريحة مباشرة في هذه المؤامرات والحض عليها، وكيف كانوا يصرحون بمنتهي السهولة والخفة بكفر صاحب الرأي المخالف وردته عن الدين ومن ثم إهدار دمه!
وينتقل الحديث بعد ذلك إلى الاقتصاد، فيتناول ظاهرة "شركات توظيف الأموال"، مثل الريان والسعد والهدي مصر، والتي أعلنت عن أرباح فلكية لمودعيها، فصارت الناس تسحب أموالها من البنوك وتذهب بها إلى هذه الشركات، حتى كاد اقتصاد البلد أن ينهار، فاضطرت الدولة للتدخل وإنهاء هذه الشركات.
كذلك استمرت السياسة الاقتصادية التي بدأها السادات ببيع شركات القطاع العام. فبيعت خلال وزارة الدكتور عاطف صدقي ومن بعدها وزارة الدكتور عاطف عبيد حوالي 65% من إجمالي عدد هذه الشركات. وهكذا مشى مبارك على نفس خطى السادات، مع أنه بدأ عهده بمؤتمر اقتصادي كبير يبشر بخير وفير.
وفي مجال السياسة يبين المؤلف كبف ابتعدت المسافة بين الدولة والناس.. والسد الذي بات يفصل بين الشرطة والناس... ثم تحدث عن حوادث القطارات والعبارات.. وعن تزوير الانتخابات البرلمانية، وبالتحديد تلك التي أجريت في نهاية عام 2010، والتي كانت سببًا من بين الأسباب التي أدت إلى سقوط حسني مبارك.
*****
في الفصل الرابع من الكتاب، وهو المتعلق بثورة 25 يناير وما بعدها، يوجز المؤلف الحديث عنها في الخطوط العريضة لها. لكنه يشير إلى تكرار نفس المشاهد القديمة... فالإخوان ذهبوا وجاء السلفيون بديلًا عنهم... والحزب الوطني الذي هوى، قام مكانه الآن "حزب مستقبل وطن"... والحوار الوطني الحالي لا يختلف كثيرًا عن صنوه الذي انعقد سنة 1978. وعاد العسكريون إلى السياسة، تمامًا كما فعلوها من قبل في عهد ناصر، وأفضت بمصر إلى يونيو 1967.
*****
الكتاب -وبحق- تجسيد نابض بالحياة لسنين طوال من عمر مصر. ويمكن أن تقرأه على أنه رواية مكتملة الأركان، وتتمتع بها أيما متعة.. أو تقرأه على أنها دراسة تأريخية حديثة لعهود الحكام المصريين في حكم مصر.. أو أن تعتبرها نواة لمزيد من البحث والقراءات في تاريخ مصر الحديث.
وللمؤلف الأستاذ إبراهيم عبد المجيد أقول: هذه البساطة التي تكتب بها تأسرنا.. وكتابك هذا -ككتبك الأخرى- يعلمنا الكثير والكثير، ويصحح مفاهيم كثيرة كانت مبهمة أو غائمة. فلك مني كل التحية وجزيل الشكر.
*****
عفوًا! يخيل إلى أني أسمع أحدهم يسأل عن تقييم الكتاب؟! ومن أنا لأقيم إبداع أديب ومفكر في قامة العم إبراهيم.