هل الله موجود؟ فاين هو مما يحدث إذا؟ ماذا نفعل للنهوض بروسيا و اللحاق بأوروبا؟
هذه هي الأسئلة الثلاثة التي دارت حولها الرواية برغم أن هذا الكتاب ليس كتابا في اللاهوت و لا مباحث في الفلسفة و ليس أيضا تمهيد لسيجموند فرويد. إنه القدير دوستويفسكي يتنبأ بمستقبل روسيا لعدة عقود قادمة.
في كل مكان و في كل زمان منذ بدء الأعصر. لم يمثل العلم و العقل في حياة الشعوب إلا دورا ثانويا لخدمة الحياة. و سيظل الأمر كذلك إلى نهاية العصور. فإنما تتكون الشعوب و تنمو بدافع قوة مختلفة عن هذا كل الإختلاف. بدافع قوة عليا مسيطرة يظل أصلها مجهولا و لا يمكن تفسيره. هذه القوة هي الرغبة المتأججة في الوصول إلى نهاية. و انكار هذه النهاية في الوقت نفسه. هي تأكيد الحياة تأكيدا مستمرا لا يتعب. و انكار الموت.
هي روح الحياة. هي ينابيع المياه الدافقة التي تهددنا رؤيا القديس يوحنا بأنها ستغيض يوما ما. هي مبدا الجمال على حد تعبير الفلاسفة. أو هي مبدأ الأخلاق على حد تعبيرهم أيضا. أما أنا فأسميها ببساطة أكثر: البحث عن الله. إن هدف كل شعب في كل حقبة من تاريخه هي البحث عن الله فقط. عن إلهه. عن إله هو الذي يؤمن به على أنه هو الإله الوحيد الحق. إن الإله هو الحقيقة المركبة من الشعب كله. منذ وجوده إلى نهايته. في كل زمان و في كل مكان. كان لكل شعب إلهه الخاص. و لم يحدث حتى الأن أبدا أن كان لجميع الشعوب أو لعدة شعوب إله واحد. مشترك بينها جميعا. و حين تأخذ الشعوب بأن يصبح لها ألهه مشتركة فذلك علامة موت لهذه الشعوب. و حين تصبح الألهة مشتركة بين عدة شعوب فإن الألهة تموت. كما تموت الشعوب و يموت إيمانها.
يبدو السؤال الأول لوهلة قصيرة سؤال عبثي أو على الأقل تقريري و لكن الأحداث تبين لنا أنه استفهامي بحت و أن الأراء في تلك النقطة متباينة أشد التباين بين أبطال الرواية.
فمهما تكلف البعض الإلحاد و حث نفسه على نكران الدين و انتزاع جذورة إلا أنها ليست بالمهمة السهلة أبدا.
لم أستطع أن أنتزع نفسي دفعة واحدة من كل ما كان قوام حياتي منذ طفولتي. من كل ما كان معقد آمالي و موضوع حماساتي. من كل ما جعلني أسكب دموعا تفيض بالكره و البغض. انه لمن الصعب على المرء أن يغير آلهته.
لم يبدأ تزعزع إيمان الشعب الروسي من العدم سيما و انه كان ايمانا متجذرا يضربون به المثل. و لكن كما قال ماركس و تابعيه: فتش عن الاقتصاد.
إذا انهارت أوروبا فستكون تلك كارثة كبرى فعلا. أما عندنا في روسيا فلا يرى المرء ما الذي يمكن أن ينهار على وجه الإجمال. لن نشهد حجارة تتساقط و إنما سيتداعى كل شيء وحلا. إن روسيا المقدسة عاجزة عجزا مطلقا عن إبداء أية مقاومة لأي شيء. و بفضل الإله الروسي ما يزال الشعب الروسي هادئا بعض الهدوء. و لكن المعلومات الأخيرة تدل أن الإله الروسي لم يبق له كثير من قوة. و أن إلغاء الرق قد أوشك أن يسقطه. و هو قد هزه هزة قوية على كلٍ.
منهم من بلغ به الإحاد مبلغ الرغبة في انتزاع الإرادة من الإله الذي ينكر وجوده من الأساس.
- إذا كان الله غير موجود فانا الله.
- هذه بعينها هي النقطة التي لم أستطع أن أفهمها منك في يوم من الأيام. لماذا أنت الله؟
- إذا كان الله موجود كانت الإرادة كلها له. و كنت أنا عاجزا عن كل شيء في خارج إرادته. أما إذا لم يكن موجودا فالإرادة كلها إرادتي. و علي أن أنادي بإرادتي الخاصة.
- إرادتك الخاصة! و لماذا عليك أن تنادي بها؟
- لأن الإرادة كلها الأن إنما هي إرادتي. هل يعقل أن لا يوجد على وجه الأرض كلها شخص يجرؤ أن ينادي بإرادته الخاصة في صورتها القصوى بعد أن قتل الله و آمن بتلك الإرادة الخاصة التي له. ان مثل من يعجز عن ذلك كمثل فقير ورث مالا و لكنه لا يجرؤ أن يقترب من الكيس لأنه يعد نفسه أضعف من أن يحق له الاستيلاء عليه. أريد أن أنادي بإرادتي أنا. سأفعل ذلك و لو فعلته وحدي.
و منهم من عاش حياته ينكر الإله حتى إذا أتاه الموت قال إني تبت الأن و تلك لعمري هي طبيعة الإنسان في كل عصر.
يا أصدقائي. إن الله ضرورة لي. لأنه الموجود الوحيد الذي يمكن أن يحبه المرء حبا أبديا. ان خلودي ضرورة لازمة له. لمجرد أن الله لن يشاء أن يرتكب ظلما يطفيء إلى الأبد العاطفة التي اشتعلت في قلبي حبا له. و أي شيء أثمن من الحب؟ ان الحب فوق الموجود قيمة. إنه تاج الموجود. فكيف يكون ممكنا أن لا يخضع له الموجود؟ إذا كنت قد أحببت الله و سعدت بهذا الحب فهل ممكن أن يطفئنا الله أنا و حبي و أن يغرقنا في العدم؟ إذا كان الله موجودا فأنا خالد. ذلكم هو إعلاني لمبادئي.
نتعلق جميعا بالإله لأننا نحتاجه. من يؤمن منا و من لا يؤمن. و نرتعب تماما من فكرة عدم وجود قوة عليا نخضع لها و نلتجأ إليها في الشدة حتى و إن تناسينا تأثيرها في الرخاء.
يكفي أن أتصور أن هناك شيئا أعدل مني بما لا نهاية له. و أسعد مني بما لا نهاية له. حتي يملأني ذلك حنانا واسعا و أن يملأني شعورا بالمجد. كائنا من كنت أنا. و فاعلا ما فعلت. لا يحتاج الأنسان إلى سعادته الخاصة كاحتياجه إلى أن يعرف و يؤمن في كل لحظة أن هناك في مكان ما سعادة مطلقة و سلاما لجميع الناس و لكل الأشياء .. قوام قانون الحياة البشرية كله أن يكون في وسع الإنسان أن ينحني أمام شيء عظيم عظمة لا نهاية لها. فإذا حرم البشر من هذا الشيء الذي لا نهاية لعظمته رفضوا أن يعيشوا و ماتوا في اليأس. اللانهاية و المطلق لا غنى للإنسان عنهما. كما لا غنى له عن هذه الأرض التي يعيش عليها.
و من النماذج المعبرة في الرواية عن الإنسان بكل ما فيه من صراعات: شخصية ستافروجين الذي يتأرجح دائما بين اليقين و الإلحاد و بين العبقرية و الجنون.
- إني لعلى يقين من أنك ترى أن هذا الإيمان أجدر بالاحترام من الجحود الكامل.
- بل الإلحاد الكامل أجدر بالاحترام من عدم الاكتراث.
- هوه! ما أعجب هذا الكلام! إنك لتدهشني حقا!
- الملحد إلحادا كاملا واقف على الدرجة الأخيرة التي تسبق الإيمان الكامل (أن يخطو هذه الخطوة الأخيرة أو لا يخطوها فتلك مسألة أخرى). أما الذي لا يكترث و لا يبالي فإنه لا يملك أي إيمان. و ليس في نفسه إلا شيء من الخوف أحيانا. هذا إذا كان المرء حساسا.
من هو البطل في الرواية؟ سؤال يستحق أن نتوقف عنده.
أنا شخصيا أعتقد أن البطولة الجماعية التي توزعت على الجميع لم يقصد منها إلا أن البطل الحقيقي هو روسيا التي ستستطيع أن تروض الشياطين و تجعلهم في خدمة مصالحها و لكن تسخير الشياطين لم يكن أبدا فكرة صائبة أيتها الأم العجوز روسيا.
انه من أجل أن يحل المسألة الاجتماعية حلا نهائيا. يقترح تقسيم الإنسانية قسمين غير متساويين. فعشر ينال الحرية المطلقة و ينال سلطة بغير حدود على تسعة الأعشار الأخرى. و تسعة أعشار يجب عليهم أن يفقدوا شخصيتهم و أن يصبحوا أشبه بقطيع. فإذا ظلوا خاضعين خضوعا تاما بغير حدود أمكنهم أن يصلوا شيئا فشيئا بعد سلسة من التحولات إلى حالة البراءة البدائية. إلى شيء يشبه جنة عدن الأولى. مع بقائهم مضطرين إلى العمل. إنه يجرد تسعة أعشار الإنسانية من إرادتهم و يحولهم إلى قطيع بواسطة التربية.
يلمح فيسكي إلى الأعوام الثلاثين التي مرت على انضمامه لحركة ثورية سجن بسببها عدة أعوام في بداية حياته و تكاد هذه الرواية تصور جزء من تجربته مع الخلية التي ارتبط بها و غيرت مجرى حياته تماما من ضابط مهندس إلى سجين سياسي ثم إلى كاتب يشار له بالبنان.
لا حاجة إلى التعليم. كفى علما. حتى بدون العلم .. تكفينا الموارد التي نملكها الأن ألف سنة أخرى. و لكن علينا أن نقيم الطاعة. ان الظمأ إلى التعلم قد أصبح منذ الأن ظمأ أرستقراطيا. و ما ان تمكن الأسرة أو الحب من القيام حتى تنشأ الرغبة في التملك على الفور. سوف نقتل هذه الرغبة. سوف ننمي الإدمان على السكر. سوف نغذي الافتراء و التخرص. و السعاية و النميمة. سوف نغرق البشر في فجور لا عهد لهم بمثله من قبل. سوف نقتل كل عبقرية قبل أن تولد. سوف يكون جميع الناس متساوين. مساواة مطلقة. نحن نعرف مهنتنا و نحن أناس شرفاء. ذلك كل ما نحتاج إليه.
لا تخلو الرواية أيضا من لمحات السخرية الاجتماعية التي يتميز بها دستويوفسكي و تأتي في السياق بلا شبهة تعمد
إن كل امرأة تدخر لزوجها بعض الخطايا القديمة لتستعملها في الوقت المناسب.
كان خضوع الجموع لبطرس ستيفانوفتش خضوعا أعمى تميزت به الحركات الراديكالية سواء اليمينية منها أو اليسارية و خصوصا حركات العنف المسلح.
كانوا يشعرون جميعا أنهم أشبه بذباب سقط في نسيج عنكبوت ضخم. فكانوا يشعرون بسخط و حنق و لكنهم في الوقت نفسه يرتعشون خوفا.
من هو فيسكي في شخصيات الخلية الخمسة؟ هل هو الضابط الصغير محدود الذكاء الذي يكتفي بكتابة محاضر الجلسات و تنفيذ الأوامر فقط أم هو شاتوف أم شيجالوف أم بطرس البغيض نفسه؟
ان كل منكم يقع على عاتقه عبء كبير يجب أن يحمله. و تقع على عاتقه مهمة ضخمة يجب أن يحققها. انكم مدعون إلى تجديد مجتمع منهوك فاسد عفن. فلتكن هذه الفكرة حافزا يبث فيكم الشجاعة و يحضكم على العمل باستمرار. إن جميع جهودكم يجب أن ترمي إلى انهيار كل شيء. الدولة. و أخلاقها. سنظل وحدنا واقفين. نحن المهيئين منذ مدة طويلة لأن نستلم السلطة. فأما الأذكياء فسوف نجعلهم ملحقين بنا. و أما الأغبياء فسوف نركب على ظهورهم. ما ينبغي أن يقلقكم هذا. يجب علينا أن نعيد تربية الجيل الحالي. لنجعله جديرا بالحرية.
من أهم شخصيات الرواية و أكثرها حظا في السرد ستيفان تروفيموفتش الذي استحوذ على جانب كبير من الأحداث و ليس ذلك غلا لأنه الشيطان الأكبر و ان لم يشارك في الشيطنة بصورة مباشرة إلا أن الوسوسة هي الوظيفة الرئيسية بدوام كامل لكل شيطان منذ زلة آدم و حتى النهاية.
لقد ظللت أكذب طوال حياتي. حتى حين كنت أقول الحقيقة. لم أتكلم يوما في سبيل الحقيقة. بل في سبيل نفسي. انني أعلم هذا من قبل. و لكنني لم أر إلا الأن أن .. آه .. أين هم أصدقائي الذين طالما آذتهم صداقتي؟ لقد آذيتهم جميعا. جميعا. هل تعلمين؟ أنني ربما كنت أكذب حتى في هذه اللحظة. نعم. انني أكذب. هذا أكيد. المهم أنني أصدق ما أقوله حين أكذب. و أعسر الأمور أن يحيا المرء بدون أن يكذب. نعم. نعم. ذلك هو أعسر الأمور قاطبة.
تسيطر على دوستويفسكي نزعة انجيلية محافظة ترسخت في وعيه منذ سنوات اعتقاله و خاصة رؤيا يوحنا التي استوحى منها عدة قصص قصيرة غير هذه الرواية المتميزة التي بشرت بمجيء الشياطين و رحيل يسوع و لكنها تنبأت أيضا بأن العكس لابد أن يحدث يوما ما.
إن هؤلاء الشياطين الذين يخرجون من المريض ليدخلوا في الخنازير هم جميع الجراح و العفونات و القذارات و الشياطين الصغيرة و الكبيرة التي تراكمت خلال القرون في مريضنا الغالي العظيم. في روسيا. نعم. في روسيا هذه التي أحببتها دائما. غير أن فكرة رائعة و إرادة جبارة ستهبطان عليها من السماء كما هبطتا على ذلك المجنون. و ستتخلص من جميع الوساخات و النتانات التي ستطلب هي نفسها أن تدخل في الخنازير. بل لعلها قد دخلت منذ الأن. سوف نهوي من أعلى الجرف إلى البحر كمجانين مسعورين. و سوف نهلك جميعا. و هذا خير. إننا لا نصلح لغير ذلك. و لكن المريض سوف يشفى. و سيجلس عند قدمي يسوع. و سينظر الجميع إليه مدهوشين.