#ريفيوهات
"الشعور بالذنب من السفر جوا......طبخة متبلة محيرة"
--ما بين السخرية وزبد البحر
- اسمحوا لي أن أطرح سؤالا غريبا بعض الشيء، ما يميز الطبخة المقدمة "من أول الفول المدمس إلى ساندويتش الكبدة الاسكندراني والفتة الدسمة" هل المادة ذاتها أم البهارات أو "التحويجة" الممزوجة بها، بالطبع ستأتي إجابات متباينة ستهلل للبهارات وتمدحها لأنها تداري بعض من غلظة في طعم الأكلة الأصلية، وأخرى تحب الطعم الأصلي دون مواربة وتراها "تعقيد والسلام" وقليل مثل حالتي يحب الاعتدال، لكن من هذا الجدال دعونا نرفع سؤالا آخر، هل كان صائبا الشاعر تميم البرغوثي في معارضته للبردة- إذا نحينا السبب وهو وصفه لكرم النبي الكريم- "من يمدح البحر لا يذكر له الزبدا" ؟ صحيح أن الزبد يذهب جفاء كما ذكر في آية كريمة، لكن لا يعني أن وجودها عبثا.
-وكذا موضوعنا، فالبعض لا يروقه القصص ذات الطابع الساخر "كفعل فاضح و #مصور_في_جنازة وكادر ثابت وقضاء حاجة" ممكن أن يعتبرها شيئا زائدا عن محتوى القصص "فاصل ترويحي" يمكن إبعادها بسهولة لكن في رأيي لا، فهذه الروح التي ذكرتني بلوحات مسلسل مرايا أو بقعة ضوء "مسلسلات ساخرة سورية" هي التي قوت الرابط بين الأفكار والأطروحات والمشاعر على طول القصص، بوابة ممتازة لفهم سر جمع كل هذه القصص في كتاب واحد، محتوى خفيف يعرف سر الفكرة الأصلية فيتعانق معها، كما تتعانق التوابل مع الطعام فتقويه وتميزه لا تفرض نفسها عليه، وكما يضفي الزبد بعض الألق على البحر، قبل أن يولي في ثوان ويبقى البحر، يخفت أثر الضحك والدهشة وتبقى الأفكار والروابط بين القصص موجودة.
--جوع ما..
-نعود إلى المضمون، نجد أن القصص رغم انفصالها بحبكات مصاغة بشكل محبب للنفس "وخاصة حينما بسطت أزمة مارس ١٩٥٤ بطريقة مذهلة في قصة الصلاة في مسجد حسين صدقي"، تترابط وتتشابك في الشعور الإنساني لكل الشخصيات.
-وأولهما بأنها جعلت الرغبة- سواء إن كانت غريزية صرفة "كقصة مغامرة الجن الأخيرة" أو شعورية "كقصة الرسالة 154 وقصة أحقر مهنة في الوجود وقصة الشعور بالذنب من السفر جوا وقصة غرفة إعادة التيار" أو مزيج بين الاثنين "كقصة الصلاة في مسجد حسين صدقي " - وعلاقتها بالمرء كأنها علاقة الجائع بما يشبعه ويتخمه ويجعله "ملو هدومه"، ونتاج ذلك كانت للجائع نارا تأكله وتؤلمه وتجعله يهيم في الأرض متشككا في كل شيء، معلقا بين يقين قدره بأنه يساق إليه سوقا فيتصبر بالابتعاد عما يشبعه، والشك في جدوى حياته إذ أن قيمته قد انتفت بجوعه"كما في معاناة بطل قصة الصلاة في مسجد حسين صدقي ومعاناة الموظف في قصة أحقر مهنة في الوجود"، فيهيم على وجهه بألمه، ويدور سعيا باسمها عسى يلتقيها وتقر عينه
❞ أحيانًا تكون حلول عذاباتنا بين أيدينا، لكننا نصاب بعمى مؤقت لا يجعلنا نرى الإجابات عن الأسئلة إلا لدى الآخرين، بينما الإجابة -في أحيان كثيرة- تكون فينا. ❝
من قصة وردية إعادة التيار
-وكلما اشتد ألم الجوع "أو الحاجة" يلجأ البعض إلى التحايل، أو بمعنى أصح تنفلت منهم الحلول، نرى منهم الانفعال البكر الذي لا يعكره تخطيط ولا دراسة، لا يهم فيه الشخص بقدر ما يهم الفعل ذاته "فنرى تهميش المعلم الجن لصاحبهم الفتى بعدم ذكر اسمه أمامه، رغم أنه يسعى "مضبشا" معهم سواء بقطعة الحشيش المخلوطة أو بفكرة ابتكار الز.لزال في قصة مغامرة الجن الأخيرة، أو بوضع الرتوش على المساعد الأول وعدم التركيز عليه رغم أنه بفعله هو من غير الموازين "قصة فعل فاضح"، أو غير معروفة تماما كما ابنة رجل الأعمال في قصة "#مصور_في_جنازة " ذات مرور خاطف" فتكمن الأهمية هنا في أنهم ظهرهم للحائط لا حيلة لهم، فينفعلون كما رقصة الروح الأخيرة "يمكن أن يسمى انفعال بكر لانفلات الحيل وتفتتها أمام الموت" وهي تستمسك بأدنى أمل للحياة، إما أن تنجح فيصلون لمرادهم فيتنعمون بحاجتهم، أو لا فيبقى مجرد حلاوة روح لجسد أماته اليأس.
ملاحظة: قد يكون كقصة "وردية إعادة التيار " خطة مدروسة بتنظيم انقطاع الكهرباء، لكن تبقى في ظل انفعال بكر بالسير والابتعاد عن الناس وموازين عقولهم، وتراه يكمل فيما خططه رغم معرفة العاقبة فلقي ما رغب
--ذنب أثر التحليق
-في بعض القصص، وخاصة "قصة الشعور بالذنب من السفر جوا " نلاحظ سؤالا، ما معنى التحليق؟ وهل يكون ذنبه مكافئا لشعور "جريتا" ناحية السفر جوا، واستبدالها بمشقة الرحلة عبر السفينة؟
-ونجد الإجابة مبسوطة في قصص عديدة، فقد يكون التحليق هو تحليق الروح بالوصول لمبلغها من الحياة أو الصفاء النفسي إن علمت بأنها سلكت طريق رحلتها الصحيح كما رأينا المعلم فهمي في مغامرة الجن الأخيرة، أو وصول النفس لمبلغها من النشوة فتشعر كأن النجوم دانية منها "كقصة الصلاة في مسجد حسين صدقي أو قصة فعل فاضح"
-أما إجابة السؤال الثاني فيساعدنا "أبو البقاء الرندي" في مرثيته عن الأندلس "لكل شيء إذا ما تم نقصان .....فلا يغرنك بطيب العيش إنسان"، ونراه يتفق مع جريتا "الفتاة النمساوية" في أن التحليق والعلو بما فيه استمتاع لابد أن يكون في مقابله ثمنا مرا، ولذا نفهم سبب فرار الموظف والابنة من لحظات نهاية أبويهما "في قصة أحقر مهنة في الوجود"، لأن هذه اللحظات رغم أنها توصل القلب إلى قمة المشاعر وتخرج ما خفي منها زمنا، إلا أنها معروف إنقطاعها، لكن المرء يغفل من كثرتها ودفقها الصادق فيفاجئ "متشابها مع بطل قصة الصلاة في مسجد حسين صدقي " بوقت الحساب وبالثمن الكبير من خواء النفس والروح وما يحفها من ذنب مؤلم من جهات متعددة "كما مصير الحبيب في قصة الشعور بالذنب من السفر جوا "، فيفضلون "الموظف والابنة وجريتا" الترنح أمام بحر المشاعر بين التسليم والخيال، فذلك رغم مشقته أئمن من خواء مطلق
-- مشاعر موظفين "البوسطجي حي فينا"
- تتشكل قصص "الرسالة 154 ووردية إعادة التيار وأحقر مهنة في الوجود" في رسم هيئة الموظف الجامد المتقبل لمصيره وإن كان ساخطا عليه، يذكرني بسخرية البوسطجي الباردة في مسلسل إذاعي "مأخوذ من رواية بنفس الإسم للكاتب الراحل يحيى حقي"، بالإضافة أنهم يتفقون على صدفة ما تنقلهم لصراع بين الرحمة والرفق والجمود السائد، ويتفقون على تصاعد وتيرتها بشكل محموم يجعل الشخص نفسه حيران إلى أيهم ينحاز "المختلف في وردية إعادة التيار أن الصراع محسوم موظف فيه الرتابة المعروفة للوصول لمشاعر الرفق"، فنعيش معاناة موظف الاتصال تدريجيا مع الكفيفة بين تنكر وتشتت، حتى تصل لذروتها حين تسرد الكفيفة ألمها، إلى أن نصل لنقطة النهاية أو الندم على تلك الحيرة، فتتوزع صرخات البوسطجي- التي لازلت أذكرها- بين جرس الهاتف المعلق وربما صوت رصاص انتحار مأمور قسم الحي الراقي في قصته.
الخلاصة: عمل شيق لطيف، جمع بين السخرية والألم بطريقة حرفية عالية، يصعب فيه أن تولي من جمالها السكرة لكن تنجلي بوضوح الفكرة