المسألة كلها كانت تختصر مرة أخرى في قتل الوقت. و قد خلصت إلى عدم الإحساس بالملل البتة مذ تعلمت التذكر. كنت أنهمك أحيانا في التفكير بغرفتي و في خيالي كنت أنطلق من موضع لأعود إليه. محصيا في ذهني كل ما أصادفه في طريقي. في البداية كنت أنجز ذلك بسرعة. غير أني كلما عاودت الأمر زاد الوقت طولا بعض الشيء. إذ كنت أتذكر كل قطعة آثاث و على كل قطعة آثاث ما هو موجود فوقها. و بالنسبة لكل شيء كل تفصيل. و بالنسبة للتفاصيل نفسها كنت أتذكر كل ما كان فيها من توشية أو صدع أو جانب تالف. و كذلك ألوانها و مكوناتها. و في الآن نفسه كنت حريصا على ألا أضيع خيط جردي. و علي أن أقوم بإحصاء شامل لدرجة أني بعد أسابيع معدودة. صار بوسعي أن أقضي ساعات لا أفعل فيها شيئا غير إحصاء ما يوجد بغرفتي. هكذا كلما زدت إمعانا في التفكير انبثقت الأشياء المنسية و المجهولة من ذاكرتي و أدركت آنذاك أن رجلا لم يعش سوى يوم واحد من حياته يستطيع أن يقضي مائة سنة في السجن. إذ سيكون لديه من الذكريات ما يكفيه كي لا يمل.
خير وصف قيل عنه أنه لا يملك روحا أو يملك روحا خاوية. لا يؤمن بشيء. متبلد المشاعر و الأحاسيس. حتى المتعة عنده لا قيمة لها إلا من حيث هي سلوك حيواني لتزجية الوقت ليس إلا. فلا عجب أن يقترف جريمة الصدفة هذه بلا وعي و لو كان واعيا لكان أكثر شرا و فسادا في الأرض بتلك الشخصية المرتبكة.
ارتفع من الشارع و عبر مساحة القاعات و أروقة المحكمة كلها نفير بوق بائع المثلجات. بينما محاميَ مستمر في حديثه. كانت تنهال عليّ مرهِقة ذكريات حياة ما عادت تخصني بعد. لكنها الحياة التي عرفت فيها أتفه لحظات فرحي و أعندها. روائح صيف. الحي الذي كنت أحبه. سماء مسائية. ضحكات ماري و فساتينها. غص حلقي بكل الأمور عديمة الجدوى التي كنت أفعلها هناك. و ما عادت بي سوى لهفة إلى أن أنتهي من كل هذا و أن أعود على زنزانتي و أنام.
على أن تصوير كامو لغربة هذا الرجل في الجزائر كما غربته في سجنه كان يشير إلى غربة أكبر و هي غربة هذا الإنسان داخل جسده و غربته في هذا العالم بأسره و كأنه يتوق للعودة إلى مكان أخر. مكان لا يمت لهذا العالم بصلة. مكان لا نعرفه و لا نستطيع تخيله.
و أقضي سحابة نهاري مشغولا بموضوع الاستئناف. و أعتقد أني أفدت غاية الإفادة من هذه الفكرة. إذ كنت أحسب احتمالاتي و أستخلص من أفكاري أفضل ما يمكن استخلاصه. كنت أضع في الحسبان دائما أسوأ الاحتمالات: أن يرفض طلب الاستئناف. عندها سأموت إذا أكثر شبابا من آخرين. هذا بيّن بنفسه. لكن الجميع يعلم أن الحياة لا تستحق أن تعاش. و في قرارتي ما كنت أجهل أن الموت في الثلاثين أو الستين لا يشكل فرقا. ما دام في الحالتين سيستمر رجال و نساء آخرون في الحياة. و سيدوم هذا آلاف السنين. و في المحصلة لم يحدث أن كان شيء أكثر وضوحا من هذا. سأكون أنا من يموت دائما. سواء مت الآن أو مت بعد عشرين عاما.