التجربة الرابعة لي مع "أزهر جرجيس" الكاتب العراقي الذي أصبحت أعشق كتاباته، وأعماله، بعد مجموعتان قصصيتان جيدتان، ورائعته "النوم في حقل الكرز"، نأتي لنضرب موعداً جديداً مع "حجر السعادة"، وبطلها كمال توما.
الرواية يُمكن أن تقسمها إلى جزئين رغم أنهما حكاية واحدة، ولكنك ستشعر أن الحكاية أخذت وتيرة مختلفة بعدما كبر بطلنا، بعد هروبه من أب قاس ظالم، وزوجة والده الملعونة التي تحرمه من كل شيء، وتكيد له المكائد، فعاش "كمال" الطفل في الشوارع، يتنقل من زقاق إلى آخر، يبحث عن لقمة عيش تداوي جوعه، ومسكن يداوي برد جسده، وروحه، فيتخبط في العديد من الأشخاص عديمي الرحمة، من يتخذ الدين عباءة، ومن يتخذ الورع عباءة، ومن يتخذ الوجه الطيب عباءة، خلف شيطان بشري لا يرحم، وكانت أجواء الرواية بائسة إلى الحد الذي يجعلك تتلهف لأن تفهم كيف يُمكن لطفل من أن ينجو من هذا كله؟ وفي الوقت التساؤل ينقذه خليل المصور، ليُغير حياته إلى الأفضل، لينتشله من براثن الخوف إلى الأمن والأمان، ويعلمه التصوير، الذي طالما كان "كمال" شغوفاً به منذ أن كان يلتقط الصور بكاميرته الورقية.
"لكني أيقنت فيما بعد بأنه عاشق، وأن ليس من شأن السنين إخماد جمرة الأسى في قلوب العاشقين."
وكأن الحياة لا تُريد لكمال أن يكون سعيداً، رغم أن أسنانه تكاد تتلف من كثرة ما ضغط على حجر السعادة، ولكنه يتعلق بالحب، ونحن نعلم جيداً أن بعض الناس مكتوب على جبهتم غير صالحين للحب، وكان كمال منهم، ليتعلق بحب بعيد، لا يستطيع الحصول عليه كقمر، فكانت هذه التجربة مهمة لكمال، الذي أيقن أن ليس كل ما نريد الحصول عليه، نتحصل عليه، وعلى الأخص نوعية البشر الذي هو من طينتها. العاجزين عن أي شيء.
بعد نضوج كمال، تشعر أن الرواية نضجت معه في النصف الثاني، أصبحت الأحداث أكثر عُمقاً، وأصبحت أكثر قتامة وسودواية، فبالطبع ذلك مؤشراً لدخول السياسة في الأحداث! ورغم أنه طوال عمره يمشي بداخل الحائط لا جواره، ولكن من قال أن ذلك كافياً لكي نبتعد عن تعسف السياسة وحكوماتها ومليشياتها وظلمها؟
شعرت أن الرواية تُصور العراق وتحولاتها، بكاميرا من سرد وكلمات، العديد من الصور تنطبع بالذهن لا تخرج منه بسهولة، لقطات وحيوات، حزن وسعادة، موت وولادة، فراق ولقاء، حب وكره، سياسة ودين، هذه الرواية كانت تحاول أن تنقل العراق وما حدث لها على ورق، وقد وفق الكاتب في ذلك بكل تأكيد. وكالعادة، لا تكتمل أعمال "أزهر" إلا بالسخرية المُحببة، هذا الرجل بارع في السخرية السوداء، تُضحكك، وبعدما تُفكر فيها قليلاً تجد أن ذلك الضحك هو ضحك كالبكاء، وأصبحت هذه السمة لأعماله واضحة، بمجرد ما تقرأ سطور هذه الرواية تعرف من كاتبها، فمن سيكتب عن وجع العراق بهذه الدقة إلا "أزهر جرجيس"؟
بكل تأكيد يُنصح بها.