مارس 2021
ثلاث تحديات كانت أمام هذه الرواية لكي تكون رواية جيدة وناجحة، والحقيقة أن الكاتب محمد جمال استطاع أن يتجاوزها كلها ويقدم لنا رواية متماسكة.
أول هذه التحديات هو الفكرة، أن تعتمد الرواية بكاملها على فكرة، وأن تكون الفكرة مكشوفة تمامًا، بل ويتم تقديمها قبل قراءة الرواية أصلاً، منذ العنوان، والنبذة الموضوعة على الرواية، لا مجال هنا للمفاجأة ولا التمهيد، حتى لا مجال للحرق، رواية يبدؤها القارئ وهو مدرك تقريبًا لأبعادها، ماذا بعد؟! كيف سيتمكن الكاتب من أن يدور بنا في أفق فكرته وأبعادها؟
التحدي الآخر هو حجم الرواية، الرواية من 350 صفحة بفكرة أساسية واحدة، وعدد من الشخصيات، ولكنها في الأصل رواية فكرة، حتى وإن دارت في مكان محدد (هو الإسكندرية كما نعرف طبعًا) يبقى التحدي قائمًا، كيف سيتمكن الكاتب من كتابة تفاصيل مشبعة للقارئ ومشوقة طوال تلك الفترة، وهل سيقدم مع كل فصل جديدًا، أم سيقع في العادية والملل؟!
التحدي الثالث وهو مهم أيضًا في ظني، أن الكاتب يقدم نفسه للقارئ للمرة الأولى، فليس له رصيد عند القراء، فروايته الأولى رغم فوزها بجائزة أخبار الأدب منذ 4 سنوات (تخيل) إلا أنها لم تحظ بالتفات نقدي واسع، رغم أني أعتقد أنها قرأت جيدًا، لكن الرهان أيضًا لايزال صعب، أن يقدم كاتب جديد فكرة مجنونة بهذا القدر للفارئ الذي لا يعرفه.
لكن في الواقع وبتجاوز ذلك كله، دعنا نقول أن الرواية استطاعت أن تقدّم نفسها بقوة، ونجح كاتبها في الإمساك بخيوط فكرته وشخصياته، وتوسيع عالم الطيران (الرحب أيضًا) من خلال شخصيات العمل الواقعية جدًا والغريبة، ومن خلال تقديم كل شخصية منهم بطريقة مميزة وبأسلوب ساخر وفانتازي في آن معًا.
في البداية نحن نعرف أن الفكرة فانتازية جدًا، الناس وبدون سابق تمهيد ولا إعداد، في الإسكندرية تحديدًا، تكتشف أنها استطاعت أن تتحدى قوانين الجاذبية، وتطير ..
الفكرة في حد ذاتها تذكرني مباشرة بأفكار روايات ساراماجو، ودعوني أعترف أني لم أتفاعل مع روايات ساراماجو مثلما تفاعلت مع عالم وشخصيات وأفكار محمد جمال، لماذا بقى؟ لأن محمد استطاع أن ينسج كل الخيوط حول بذكاء ويضع لها طابعها المصري والسكندري أحيانًا الجميل، محمد يتحدث عن أشخاص نعرفهم ونمر بهم يوميًا، وويعبّر عنهم بذكاء والله، من المواطن البسيط المدرس أو الطالب، إلى حبايب قلبنا رجال الشرطة والإعلام، إلى سيدات الأعمال والسيدات "القرشانات"، الشخصيات عنده، رغم كثرتها، ورغم أن القارئ ربما يتوه بينهم وبين أفعالهم، إلا أنهم في النهاية هؤلاء البسطاء المصريين المرسومين بذكاء، وانظر إلى الحوار الذكي الساخر بينهم لتكتشف العجائب.
كل فصل وكل فكرة في هذه الرواية ـ كشأن العديد من الأشياء والله ــ يمكن أن تهاجم وتنتقد، لكن الرواية في النهاية هي تلك "الخلطة" العجيبة بين هذا كله، هي ذلك الطعم الحلو والحامض في الوقت نفسه، هي الحديث بشكل رصين وجاد وخطير جدًا أحيانًا مع العبث والهزل والفانتازيا أحيانًا أخرى، ومهمة الكاتب في النهاية، بل دوره الأساسي أن يقنع القارئ أو يجذبه للنهاية، بأن هذه الأشياء والتفاصيل لم يكن لها أن تجيء إلا هكذا! ..
أٌقول كل ذلك لإني اعتقدت في البداية أن التقديم للرواية أمر غير مستحب أو مرغوب فيه، ولكن محمد جمال أراد أن يقول لنا مرة أخرى، بعد اسم الرواية وفكرتها التي عرفناها، ومن خلال ما سماه "توطئة" أن أحداث الرواية حقيقية، وأنه يكتبها لأن الناس نسيت ما حدث رغم أهميته، وإذا كنت ـ عزيزي القارئ ــ ستعتقد أن الطيران له علاقة بالحرية والثورة فلا وألف لا ، يفرض علينا الكاتب أن تلك الأحداث قد حدثت في الأعوام 2005 وما بعدها، وذلك غالبًا لكي لا تصنف الرواية على أنها ديستوبيا واستشراف للمستقبل، وما إلى ذلك :D
المهم، لندخل في الموضوع مباشرة، واعذروني على الإطالة، تقسم الرواية بين مقدمة وخاتمة وأربعة أجزاء/فصول نتعرّف خلالهم على أحداث الرواية من "أول أيام الطيران" حتى الانتهاء إلى "القفص". كيف بدأ الأمر مصادفة عبر ثلاث حكايات مختلفة الدوافع والأهداف مختلفة الأماكن، ولكن يجمع بينهم الطيران وأنها كلها في الإسكندرية، ننتقل بعد التعرف على الحدث الأساسي إلأى شخصيات الرواية وعالمها، وكيف ستتعامل الدولة والسلطات مع هذه الحوادث المفاجئة، بين رصد الإعلام المرئي للموضوع ومحاولات السيطرة من قبل رجال الشرطة.
قسّم الكاتب الأجزاء الداخلية إلى فصول قصيرة مرقمة، وكان الترقيم على هيئة 1.1 1.2 ، وهكذا وهي طريقة مبتكرة لم أراها من قبل، كما اعتمد على التقسيم بين الأماكن والشخصيات (والحقيقة إن العودة للرواية لكتابة هذه الملاحظات أمر ممتع أيضًا، لإني مع تتالي الأحداث وتلاحقها اختلطت علي بعض الأمور) بدءًا بـ المدرس إسماعيل جراية في المدرسة، ثم الفتى وليد مصطفى في بيته، ثم رشا التي كانت تهم بالانتحار.
ولإن الرواية ـ في اعتباري ـ رواية فكرة، وليست رواية شخصيات أو أماكن، فإن الطيران يستمر، وينتقل إلى المدينة كلها، ويبقى على الرواية أن يربط القارئ بعدد من الشخصيات والأفكار المتعلقة بذلك الطيران الغريب، لذا ينتقل بنا في الفصل الثاني إلى التأسيس لأسطورة الطيران، وذلك من خلال (البحث عن علامة) ما الشيء الذي يجمع بين هؤلاء الأشخاص الذين استطاعوا الطيران؟! وكيف تم لهم هذا؟! ولكن الأمر يخرج عن نطاق السيطرة طبعًا، فيلقي الكاتب بفكرة أخرى كان يمكن أن تقوم عليها رواية كاملة، وهي فكرة "النورس الأم" التي تبدو وكأنها واحدة من محاولات الإعداد للثورة، من خلال رسائل للشباب ودفعهم إلى التغلب على السلطة التي تسعى لحظر الطيران وفرض شروط محددة له، بل وإقامة مراكز بحثية تدرس الظاهرة لكي تصل إلى أسبابها وطرق علاجها .. وغير ذلك
فكرة الرواية ذكية بل ومجنونة إن شئنا الدقة، وجاء اختيار الشخصيات والتعبير عنها ذكيًا وموقفًا جدًا، بالإضافة إلى الكثير من السخرية والتهكم سواء من النظام الأمني الصارم في التعامل مع الموضوع، أو الأفكار العبقرية التي يخترعها للحد من الظاهرة وانتشارها، إلى التناول الإعلامي (تحية خاصة للمذيع عمرو الشربيني .. الذي نعرفه جميعًا) كل هذه العوامل جعلت من الرواية عملاً متميزًا واستثنائيًا بالفعل، لا أنكر أنه أصابني الملل في بعض الأحيان، لكنه سرعان ما كان يخطفني بفكرة أخرى، أو شخصية جديدة تلفت الانتباه.
في النهاية نحن أمام عمل روائي متميز، يستحق الإشادة. وأحب أن أقرأ عنه كثيرًا.
شكرًا لمحمد جمال، وشكرًا جدًا لـ مركز المحروسة للنشر و الخدمات الصحفية و المعلومات، التي يبدو لي أنها تختار نصوصها بعناية، لإن هذا رابع عمل أقرؤه لهم في هذا العام لكاتب شاب موهوب، يجمل صبغة مميزة،