#ماراثون_القراءة_مع_بيت_الياسمين
الكاتب الصحفي والناقد الفني محمد عبد الرحمن رجل متعدد المواهب والخبرات، وله في الصحافة علي وجه الخصوص باع وأي باع. ولذلك عندما أمسكت بالكتاب، وأعجبني كثيرًا غلافه الجميل والمعبر بلونه الأصفر عن نوعية معينة من الصحف، وقرأت العنوانين الأصلي والفرعي، قلت ومن لها أفضل وأقدر منه. وهو هنا في هذا الكتاب طبيب يكشف لنا عن الأمراض والعلل المنتشرة في دنيا الصحافة، وهو أيضًا خبير صحفي يفضح عيوب وخفايا وخطايا المهنة والعاملين بها على مدار أكثر من 20 سنة، هي سنوات خبرته التي قضاها في خدمة صاحبة الجلالة.
*****
الكتاب مقسم إلى مقدمة وستة فصول. وفي كل فصل يتناول ظاهرة سلبية ليشرحها، ثم يضرب العديد من الأمثلة التي مرت به والمواقف التي عايشها. وخلال ذلك يتطرق بحديثه لرصد عشرات من الأخطاء والعيوب المتفرعة أو الناتجة عن الظاهرة السالبية الأم.
"الفبركة" هي الظاهرة التي يقدمها للقارئ في الفصل الأول. وهي المصطلح الأكثر انتشارًا في كواليس مهنة الصحافة، وتعني أن الكلام المكتوب في الخبر أو الحوار لا أساس له من الصحة. وفي بلدنا -دونًا عن بلاد العالم- الصحفي الشاطر في الفبركة يجد طريقه إلى رئاسة التحرير مفروشًا بالورود. ثم يضرب لنا المؤلفة بخفة دمه الطاغية أمثلة على مواقف غاية في الطرافة شهدها وعايشها بل وتورط فيها وفي ارتكاب أخطائها، مثل فبركة "الناس" الذين يدبجون عبارات الثناء والمديح للإرهابي التائب، هؤلاء الناس هم أبو المؤلف وابن خالته وزميله. وموقف آخر عندما فبركوا مصدر للخبر بأن اخترع -من وحي خياله- مع زميل له "أستاذ جامعي وهمي في الكويت". وبعد نشر الخبر يفاجأ بمديرته تستدعيه في مكتبها، لأن الأستاذ الجامعي الحقيقي الغاضب بشحمه ولحمه في مكتبها يصرخ ويتوعد.
وخلال السرد ينبه المؤلف إلي عيبين على درجة عالية من الخطورة، وبسببهما تمنى المهنة بخسائر فادحة. بل ونفهم أن أولهما يؤدي إلى الثاني. ويفاجأ القارئ وتتملكه الدهشة عندما يعرف أن السبب الأول هو: "غياب الإبداع" في مهنة أصلها أو أساسها أو جذرها أو ما تقوم عليه هو الإبداع.. ومن أين يجئ الإبداع إذا كانت "الفبركة" هي سيدة كل المواقف، ومهمة الصحفيين صارت مجرد ملء ورق الصحف بأي مادة ممكنة.
والفبركة أدت إلى "التكرار".. تكرار نفس الموضوعات ونفس الأفكار كل حين وحين. بل ووصل الأمر إلى درجات مذهلة من البجاحة بأن يقوم المحرر بإعادة كتابة نفس الموضوع مرة أخري بعد مرور فترة قصيرة مع تغيير المقدمة وأسماء المصادر.
الفصل الثاني يناقش ظاهرة "السبوبة". و"السبوبة الصحفية" معناها قيام الصحفي بعمل إضافي (في مكان صحفي آخر) غير عمله الأصلي. عمل لا يستغرق وقتًا كبيرًا ولا يحتاج لإبداع ومجهود، والهدف منه الحصول عل المال دون التركيز في ما يقدمه، ودون الحاجة لمراجعة وتحمل مسؤولية. فهي تعني ببساطة: أن يكتب الصحفي الموضوع الأصلي لجريدته الأم، ثم يعيد كتابته للجريدة السبوبة.
ثم يسترسل المؤلف -كعادته- في ذكر المواقف المختلفة التي تجلت فيها السبوبة بمختلف أصنافها. ويذكر أيضًا نتائج أو ثمار ظاهرة "السبوبة الصحفية" مثل "دكاكين الصحافة" و"صحافة بير السلم" و"رئيس التحرير خيال المآتة".
الفصل الثالث بعنوان: ويل للمتطفلين. يتساءل القارئ: ومن هو الصحفي المتطفل؟! فيعاجلك المؤلف بالإجابة قائلًا: هو نفس شخصية عادل إمام في فيلم "اللعب مع الكبار" عندما كان يذهب للأكل في الأفراح معتمدًا على ظن أهل العروس أنه من معازيم العريس والعكس. نفس الشئ تقريبا لكنه يقع في الفنادق حيث تنعقد المؤتمرات والمهرجانات والافتتاحات والختامات ... إلخ. والطفيليون في مهنة الصحافة ليسوا كلهم من فئة الجوعى، ومحترفي تعبئة الطعام في كيس بلاستيكي من "الأوبن بوفيه"، بل منهم من يتطفل ليفوز بغنيمة حقيبة هدية أو فلاشة 32 جيجا.. ولقد ضحكت كثيرًا جدًا من فرط غرابة وطرافة القصص التي رواها المؤلف هنا.. لكنني للأسف ضحكت لدرجة التقزز.
ثم نمر سريعًا على ما تبقى من فصول؛ فالفصل الرابع يحدثنا عن ظاهرة النهايات السريعة لأصحاب النجاح السريع والتغول والسطوة السريعة في درجات المهنة، بدون أن يكون لديهم أي رصيد من علم أو موهبة..
والفصل الخامس مهم إذ يتناول ظاهرة "تدني مستوى الصحافة الفنية". ويعدد ويشرح الأسباب وراء ذلك، ويلقي بالمسؤولية على الطرفين: الفنانين والصحفيين.. ويضرب كثيرًا من الأمثلة، أبرزها وأكثرها ظرفًا وطرافة عندما تلقى نجم كوميدي شهير 62 ميسد كول في أقل من ساعتين من أحد المحررين.
أما الفصل السادس والأخير فيتصدى لظاهرة "الاستسهال" بأشكالها المختلفة. ويؤكد أن أبرز أسباب هذه الظاهرة هو "انهيار التعليم"... التعليم الذي يخرج لنا صحفيين كارهي القراءة وفاقدي أسس البحث والمعرفة، بل ويفتقر إلى الأدوات الأساسية للتعامل مع المهنة.
*****
أبرز نقاط القوة التي استأثرت باهتمامي وإعجابي في هذا الكتاب، وإليها أعزو سر نجاحه، اثنان:
§ الأولى: طريقة ترتيب المؤلف لكتابته، وهذه تشمل الفصول والفقرات والأفكار والأولويات...إلخ هذه الطريقة أدت إلى تماسك السياق، وتسلسل الأفكار، مما أتاح للقارئ قراءة منطلقة ومنسابة، وسهل عليه عملية الربط بين الظواهر وأعراضها ونتائجها، حتى أنه يمكنه بسهولة أن يربط بين ظاهرة جاء ذكرها في أول الكتاب، بنتيجة لها ذكرت قرب النهاية.
§ الثانية: اهتمام المؤلف ببيان الهدف من كتابه، وحرصه على توصيل هذا الهدف إلى عقل القارئ. فيكرر في أكثر من مناسبة، أن هدفه ليس القصص والإضحاك، ولا هو التنديد بنظام حكم أو عهد حاكم، وإنما الهدف هو أن يطلع القارئ على الحالة المزرية التي وصلت إليها مهنة الصحافة في بلدنا.
*****
لو كان الأمر بيدي، لاخترت لمقدمة هذا الكتاب بيت شعر شهير لأبي الطيب المتنبي هو:
" كم ذا بمصر من المضحكات.. ولكنه ضحك كالبكاء.."
فقد ضحكت كثيرًا جدًا وتعالت ضحكاتي علي القصص والمواقف التي أوردها المؤلف.. ضحكت وكأنني أشاهد حلقات مسلسل كوميدي ناجح محكم الحبكة والسيناريو والحوار.. ودائمًا كانت تردني عبارات المؤلف إلى الحقيقة المرة والواقع المؤسف، وأن الصواب هو البكاء وليس الضحك.
لكن في كل الأحوال، وسواءً أكان ضحكًا كالبكاء، أم كان شر البلية ما يضحك، فلقد استمتعت بقراءتي لهذا الكتاب واستفدت منه كثيرًا.. فلمؤلفه الأستاذ محمد عبد الرحمن أقدم خالص تحياتي وجزيل شكري.