#ماراثون_القراءة_مع_بيت_الياسمين
أنا انتمي إلى جيل من القراء وقع في غرام كتب أدب الرحلات من خلال سلسلة الكتب الضخمة (مجلدات) التي قدمها لنا الأديب الراحل أنيس منصور في الستينيات من القرن الماضي. أفضلها على الإطلاق كتاب "حول العالم في 200 يوم "، و" أعجب الرحلات في التاريخ" و"غريب في بلاد غريبة" وغيرها. وقتها كانت الظروف كلها لا تسمح بسفر ولا ركوب طائرات ولا أي شيء من هذا القبيل. لذلك كانت مثل هذه الكتب تمثل لنا متعة أيما متعة، ونوافذ مفتوحة على العالم من حولنا. وبعدما تحسنت الظروف، وأصبح في مقدورنا السفر والترحال حول العالم على متن الطائرات والسفن، صارت الرحلات والسياحة هوايتنا، لكن عقولنا مازالت تحتفظ بولعها الشديد بكتابات أدب الرحلات. ولذلك جاءت سعادتي الغامرة بهذا الكتاب "أول مرة في أوروبا" لمؤلفته مي مجدي عبد الحكيم. فمن هو الأحمق الذي يرفض عرضًا كهذا لزيارة إسبانيا.. بلد عبق التاريخ وأجدادنا العرب ومعمارهم وحضارة الأندلس.. بلد كولومبوس والفلامنجو والماتادور والكلاسيكو وبيكاسو.
*****
البداية مبشرة.. غلاف ولا أروع، من حيث الفكرة والتصميم والرسومات والألوان ودرجاتها.. ثم حين اطلعت على الفهرس فلم أر الكلمات المعهودة كفصل وباب ...، وإنما الرحلة الأولى والثانية.. إحدى عشرة رحلة.. تسبقها مقدمتين، الثانية منهما بمثابة رحلة تجريبية أو إعدادية قامت بها المؤلفة إلى تونس. وقد يظن القارئ أنه مع كل رحلة فهو على موعد لاستكشاف مدينة جديدة داخل إسبانيا.. لا! ليس الأمر كذلك. إنما هذه الرحلات ربما تمثل الأيام التي قضتها المؤلفة في إسبانية. وقد اختارت لكل رحلة أبرز تجربة شخصية صادفتها كعنوان. فرحلتها الأولي كانت من القاهرة إلى مدينة "ملقا"، مع ترانزيت في روما عاصمة إيطاليا. وكانت محظوظة لأن الجهة المستضيفة لم تجد مقاعد على الدرجة الاقتصادية، فحجزوا تذكرة على درجة رجال الأعمال. ولكن كل المزايا المقدمة لراكب تلك الدرجة من تنوع أصناف الطعام المقدم ومساحة الفراغ الكبيرة بين الراكب وجاره، وغير ذلك من المزايا لم تقنع الفتاة المصرية مي مجدي. المزية الوحيدة التي حازت إعجابها كانت عندما هبطت الطائرة في مطار روما للترانزيت، وكان عليها الانتظار لمدة سبع ساعات لموعد إقلاع الطائرة التي تقلها إلى ملقا، كان هذا الانتظار -حمدًا لله- في إحدى الاستراحات المخصصة لدرجة رجال الأعال للخطوط الجوية الإيطالية. تقول مي: تجربة "مكان الاستراحة" أو "اللونج" كانت تجربة رائعة جدًا". وتسهب في ذكر تفاصيل صالات الاستقبال في هذا المكان، والمجهزة بكل التجهيزات والوسائل التي تعمل من أجل راحة المسافرين، وكيف أحالت وقت الانتظار الطويل إلى متعة حقيقية. فلم يكن غريبًا -إذًا- أن تسجل رحلتها الأولى تلك تحت عنوان: "استراحة رجال الأعمال".
المحطة التالية كانت مدينة "إشبيلية".. تحكي لنا ما صادفته من مشاكل لغتها الإنجليزية مع أهل بلد لا يتحدثونها، وحقيبتها الثقيلة، ثم فاتتها الحافلة واضطرت لانتظار حافلة أخرى أوصلتها إلى محطة الفندق، ثم أخذها للطريق الخاطئ سيرًا على قدميها... أخيرًا وصلت إلى الفندق، وهو ليس من الفنادق الفاخرة، بل هو أشبه بالنزل، يسمونه بالإنجليزية: Hostel، وفي كل المدن التي زارتها أقامت في هوستل أيضا.
من أبرز المعالم السياحية التي زارتها في إشبيلية "قصر إشبيليه الملكي" أو "قصر المورق" الذي بني في عهد المسلمين، وكذلك "كاتدرائية إشبيلية" صاحبة البرج الأشهر "الخيرالدا"، والذي كان في الأصل مئذنة مسجد إشبيلية الكبير في عهد حكم المسلمين للأندلس. و"فندق ألفونسو الثالث عشر" أرقى وأفخم فنادق إسبانيا، وهو مكان إقامة الرؤساء والملوك منذ قديم الأزل.
الرحلة الرابعة كان مخططًا لها أن تكون بالحافلة إلى قرطبة ظهرًا.. ولكن الفضول أغوى مي ووسوس لها بجولة حرة ممتعة لاستكشاف المحال والبضائع في المدينة.. وبالطبع تأخرت في جولتها، ثم ضلت طريق العودة إلى الفندق.. وتوالت عليها المواقف السخيفة التي كادت أن تقلب الزيارة بأسرها رأسًا على عقب، لكن الله سلم.
الرحلة الخامسة خصصتها لشرح هوستل قرطبة، والصحبة التي شاركتها الغرفة من مختلف جهات الأرض، سيدة من الصين، وفتاة من ألمانيا، وأخرى من المكسيك. وفي قرطبة زارت المسجد الكاتدرائية، تلك التحفة المعمارية التي لا يوجد شبيه لها في العالم. وبالطبع زارت أيضًا "القصر الملكي" الذي كان مقر إقامة ملكي قشتالة: "فيرناندو وإيزابيلا" بعد سقوط الأندلس.
بعد قرطبة كانت الرحلة لآخر محطة في إسبانيا وهي غرناطة.. ويا لها من رحلة!! أو ياللهول!! على طريقة الراحل يوسف وهبي.. وقد وصفتها مي باليوم العالمي للتيه، ثم سردت ما تعرضت له بالتفصيل.
وفي غرناطة هوستل جديد، وشريكات غرفة جدد، ثم شريكات أخريات في اليوم التالي. وزيارة لكاتدرائية غرناطة، والمدفن الملكي، وحي البيازين، وأخيرًا قصر الحمراء.
*****
"بالع راديو" هذا قول أو مثل شائع في بلادنا.. وهذا القول مجازي؛ إذ هو كناية عن الثرثار الذي لا يسكت، فهو إذن يعبر عن صفة رديئة أو غير مستحبة. لكنني هنا أريد أن أعكس هذا الوضع لكي أعبر به عن أهم وأفضل وأمتع سمات هذا الكتاب على الإطلاق، وهو انطلاق المؤلفة في الحديث من البداية إلي النهاية بلغة بسيطة وصريحة لا يشوبها تكلف ولا تلعثم. هذه الانطلاقة التي أسرتني وأوثقت قيدي إلي الكتاب فلم استطع أن أطرحه إلا بعدما انتهيت من قراءته في جلسة واحدة. هذه السمة أيضًا عقدت إلى حد بعيد مسألة أولوياتي في كتابة عرض لهذا الكتاب.. فلو كان الأمر بيدي لنقلت الكتاب بكامله هنا.
يجئ بعد ذلك في الأهمية -في رأيي الشخصي- أسلوب تعامل المؤلفة مع الناس، وهذا يشمل أيضًا كيف تفهمهم، وكيف تكتب عنهم. فهي لا تكتب دليلًا أو برنامجًا لشركة سياحة، بل تكتب لقراء يبحثون ويسعون نحو المتعة فيما يقرأونه. وأشهد لها أنها استطاعت بحنكة أن تحافظ على تحقيق التوازن كمًا وكيفًا بين ما تسرده من معلومات، وبين ما تحكي عنه من تجارب شخصية مع النوعيات المختلفة من البشر التي قابلتها.
*****
حقيقة وليس مجاملة، في هذا الكتاب اجتمعت المتع (fiction and nonfiction): متعة معرفة المعلومات التاريخية والأثرية والسياحية، ومتعة القراءة عن الكثير مما يتعلق بالسفر والترحال والتجارب الشخصية واللقاءات مع بشر من مختلف أنحاء العالم، ومتعة قراءة كم ضخم من القصص القصيرة.
الخلاصة لقد راهنت على كتاب مي مجدي، وللحق فقد كسبت الرهان وزيادة. فلها مني صادق التحية وجزيل الشكر على ما قدمته.