لم يكن ميلاد الخباز يعلم أن انحيازه للطبيعة التي نشأ وتربى عليها ببساطة في أسرته المكونة من أربع نساء، يشاركهن كل تفاصيل الحياة والاهتمامات كواحدٍ منهن، ولا حتى أن تحوله لمشاركة والده العمل في الفرن الذي يمتلكونه واحترافه صنع الخبز بأصنافه وأشكاله المتنوعه، لم يكن يعلم أن ذلك كله سيقوده إلى مصيرٍ مأساوي مغاير، بل وكأني به يردد مقولة دميان بطل هرمان هيسه (لم أكن أريد إلا أن أعيش حياتي، لم أكن أعلم أن ذلك الأمر صعب للغاية؟)
في روايته الأولى التي جاءت مفاجأة على جميع المقاييس، بدءًا بالفكرة وطريقة التناول وصولًا إلى الاحتراف في الكتابة ورصد التفاصيل، توج ذلك كله بالتأكيد حصولها على جائزة البوكر هذا العام 2022، استطاع محمد النعّاس أن يصنع ملحمة بطله الإشكالي الخاصة، وأن يضعه في ظروف مجتمعه وبيئته الليبية شديدة الثراء والخصوصية، والتي يصادف بالطبع أنها تشبه الكثير من البيئات العربية المحيطة، ثم ينطلق من خلال رؤاه وأفكاره وتصرفاته إلى منطقة أخرى مغايرة تمامًا.
ماذا يفعل المجتمع مع ذلك الرجل المختلف عمّا اعتادوا عليه وألفوه من طريقة تعامل مع الأنثى بشكل عام، وبزوجته بشكل خاص؟! هل يمكن أن يتركوه لشأنه؟ لاسيما أنه لم يهدد في الواقع أمانهم أو سلاامهم المجتمعي، فلم يخرج إليهم شاهرًا سلاحه أو فارضًا قوته وسطوته، بل على العكس من ذلك تمامًا، هو رجل بسيط يعمل في الكوشة/الفرن، ويحترف صناعة الخبز، حد أنه يعتبره جزءًا من حياته، كل ما جناه أنه بادل زوجته الأدوار، فتركها تعمل في الخارج فيما هو يقوم على إعداد الطعام وتنظيف البيت وغير ذلك من أمور تواضع المجتمع على اعتبارها نسائية.
نتعرف على حكاية ميلاد وقصته من خلال حكايته نفسه، إذ يعمد النعّاس إلى استخدام تقنية الراوي المتكلم الذي يحكي لنا أطراف حكايته وكأنه يوجهها للقارئ مباشرة، وهي تقنية تجعل القارئ متعاطفًا مع الحكاية منذ السطور الأولى، ومن خلال ست فصول/ انتقالات نعرف تفاصيل الحكاية بدءًا بالمخبز، ثم المعسكر، الانتقال إلى دار غزالة، ثم يحضر بيت العائلة، فالبراكة، حتى ينتهي بنا المقام في الفصل السادس والأخير المطبخ.
..
يعرف النعاس كيف يجذب القارئ إلى عالمه ويشحذ لذلك الكثير من التفاصيل التي تخدم الحكاية وتؤدي وظيفتها بشكلٍ فعال في نسيج القص، بدءًا بحكاية ميلاد شديدة الخصوصية، إذ نعرف أنه الولد الوحيد على عدد من البنات، وكيف تكون حياته بينهم وما فيها من تفاصيل نسائية يتعرف عليها ببراءة وبساطة في البداية وتبدو مؤثرة عليه فيما بعد، ويصف اضطراب علاقته معهم بعلاقته "بالقهوة"، حتى يشب عن الطوق ويتعرّف على حبيبته زينب، التي يحمّلها كل أفكاره الرومانسية الجميلة، والتي تبدو له أخيرًا كهدية من السماء تصلح له عثرات أيامه، يحكي أيضًا تفاصيل مغامرات الشباب بين وبين ابن عمه العبسي ورفاقه، لاسيما فيما يتعلق بالاكتشافات الجنسية، ومحاولة إثبات "الرجولة" و"الفحولة في تلك العلاقات، يأتي كل ذلك بطريقة سرد الذكريات التي تحمل قدرًا من الحنين وبعض التأمل:
.
.
أخيرًا .. مقالي عن الرواية الجميلة على موقع الرواية
****