كل مجدي أنني حاولت
تأليف
شوقي بزيع
(تأليف)
يتقن شوقي بزيع اصطياد المعنى الهارب. يأخذه بهدوء يوحي أنه كان دائماً هنا، حيث يرمي صورته تنطق. لكنها ما كانت لتكون أكثر من براعة لولا دفء العاطفة الغامرة التي تكتنفها. الشاعر هو من القلة التي مازالت الكتابة عندها مرادفة للشغف. والانطباع مصدر قوي لديه. لا للصورة والاستعارة فحسب بل لبنان ...الموقف. انطباع خصب يمنح العاطفية صدقية ذهنية إلى جانب الوهج الشعوري...
مهما تكثف الحزن في قصيدته تحتفظ هذه بترياق سحري ضد الاختناق. إنه حيناً الخلاص بالقصيدة نفسها، وحيناً رجاء ما، قد لا يعرف عن نفسه. رجاء أشبه بدهشة العينين في الصباح وأقرب إلى قوة الأشياء منه إلى البرهان. الشاعر الألماني ريلكه هو من بين أكبر شعراء المرثية. أثناء معاناته أزمة مع الإلهام سمع وهو يقوم بنزهة فوق الصخور صوتاً في الرياح يملي عليه العبارة الآتية: "ترى من ذا إن صرخت سيسمعني بين الملائكة؟" وهكذا جاءه أول بيت في مرثيته الأولى.
هنا وهناك الشعور واحد بالمحدودية. بالعجز عن الكينونة وعن التغيير، بالهشاشة، وإذا كان ريلكه يحاول التعويض بفكرة "الملائكة" (لا علاقة لها بالمفهوم المسيحي) فإن شوقي بزيع يلجأ إلى صلابة الأشجار. وكلاهما يعتصم بالحب، السحر الأقدر على إعتاق الإنسان من حدوده. فعناق الأشياء وعد بالأبدية.
أعطت المراثي صفحات بديعة في التاريخ. من أشهرها المراثي المنسوبة إلى إرميا في التوراة. لكننا هنا ناجون من ذلك الجو المكفهر، ولا يصيبنا من الرثاء إلا حكمته وحنانه، دموع التذكار ولوعة الغربة، يطريهما شغف طفولي يطير كالعصفور الطروب فوق جروحه..
في شعره أصوات نوافذ تفتح، والجو ألوان الشغف. يتصاحب الغناء والظلال، ويطيب للحواس أن تتملى من "طباع الجذور" ويغدو الجسد رفيق طيفه، يحفر الإيقاع وراء جدار المعنى، لا يهاب اللقاء بما وراءه، ولو كان الهاوية. ويظل كل شيء مهما "تواجهت العاصفة مع نفسها" ينبع ويؤوب إلى الطيبة. طيبة هي صنو التجربة شكلاً ومضموناً. طيبة هي بمثابة الأب-الأم للعالم..
هذا الشعر شمس ظهيرة تتذوق مغيبها سلفاً، زمناها، بل أزمانها مصهورة في لحظة شعرية واحدة يستحم ليلها في بحور الرغبة والذاكرة، تشرق بيضاء وتشرق زرقاء. وهذا من طبيعة الشعر: أن يولد طفلاً كبيراً ثم يمضي مع العمر مغلغلاً في طفولات يكتشفها، أو تنبري هي هذه المرة تكتشفه.