أريد ورقة أنفجر في قلبها
هذا ما كنت أردده كلما ازدحمت بداخلي الأشياء وأنا أقرأ تلك الرواية
الحقيقة أن عشرات الأسئلة كانت تلح عليّ لأفكر فيها، فأعود وقد فاتني الجزء الذي شردت خلال قراءته!
كيف يمكن أن تعيش أربعين عاماً بلا إثارة ودون أن تنتبه لذلك الفراغ غير المرئي، وبعد أربعين يوماً تقضيها بلا إرادة، تصبح تلك الأيام منحة حياتك، وفي ثانية واحدة ينفجر كل ذلك طاقة إيجابية تجعل حياتك تعبق بالإيجابية والإنجاز. كيف؟
كانت بداية الرواية جميلة وفيها بعض التشويق خاصة وجود الثور الذي لم أستوعبه تماماً، كانت صورة ساكس (البطل) جريئة بالقدر الذي يجعلك تصدق هدف الرواية، وربما كان الجزء الحقيقي في الروايات يجعلها أكثر إثارة، وأكثر تقبلاً، فالناس الذين يفكرون بشكل منطقي، مهما طلبوا المتعة من وراء قراءة الروايات فإنهم بلا شك يرغبون - وإن بشكل سرّي - بالاطلاع على تجربة واقعية مثيرة ومترابطة بشكل مقنع، وإن دخل فيها الخيال فبالقدر الذي يجعلها تبدو أكثر سبكاً، وأقل مللاً.
عنوان الرواية غريب كعادة عناوين الكاتب كما يبدو حين قرأت نبذة عنه...
وقد أحببت الرواية جداً، واقتبست منها الكثير أضفت بعضها لرزمة اقتباساتي، والبعض لأعود لمراجعته وقراءته، وبعضه لدعمي في حياتي، لكن في الحقيقة لم أستمتع بالرواية ولست أدري ما السبب الحقيقي أو الحاجز الذي لم يتح لي الاستمتاع بالرواية كما يجب، ولم أنجذب لها كثيراً حتى أنني قرأت ربما ثلاثة كتب أخرى خلال قراءتي لها.
وهي لا تحتاج الكثير من الجهد والوقت للتفكير بها فهي مباشرة جداً، للدرجة التي تمنيت معها لو أن الكاتب صاغها بشكل أكثر جذباً وفلسفة، فهي غنية بالمعلومات كحصة واقعية لعلوم بحتة، وربما كان افتقارها للخيال والصوغ الأدبي الذي يمتعني هو سبب عدم استمتاعي الكامل بها، لأنها بدت كدرس طويل في التنمية الذاتية وعلم النفس!
ففعلا ً شعرت بأنها حصة مكثفة في أكثر من فن: التنمية الذاتية، علم النفس، الطب، وفيها إجابات لأسئلة لم تخطر على البال أحيانا، غير أن الرواية ليست مدهشة، ليست مفاجئة.
لطالما كرهت كتب التنمية الذاتية لأسباب أكثرها متعلق بي، وبتعاطيَّ مع الأشياء، و – في الحقيقة - لم يلهمني كثيراً مرضه لأن حمى في أسبوع سالف كانت أقوى بكثير مما حققه في شهور متتالية, وأجدني مضطرة لأن أعترف بأن فصل النقاهة بالنسبة لي كان أفضل فصل من وجهة نظري فقد استمتعت به كثيراً، وأعدت قراءته وتشربته تماماً، حتى أنني أكملت ما تلاه على حساب استمتاعي الشديد به، وإن كان يليه في الدرجة الفصل السابق له تماماً.. أما قبل ذلك وبعده تتساوى المستويات!
ربما كان ليس من العدل ربما أن أقول إن الرواية لم تمتعني لكنها فعلا لم تمتعني وربما كان السبب هو اكتظاظ فصولها بالطب والدروس، بعد الصفحة المئة بدأت أتفاعل مع الرواية أكثر ولكنني عشت كل ألمه وتخيلت معه تفكيره في العجز وتوقعت أكثر من مرة – لشدة صدقية إحساسه – أنه سيغدو ربما مقعداً، أو سيظل مشلولاً!
أخذني معه بشكل تلقائي إلى الماوراء وبدأت أبحث في الأفكار والحالات وحتى المصطلحات التي يذكرها والأفكار التي يطرحها، ومع أن مثل هذه المواقف لا يمكن أن يمثل الخيال في حقيقة مواقعتها شيئاً، فإن كنتُ سأتخيل الآن عشرات السيناريوهات وأقرأ تخيلات الآخرين لكن... عند الوقوع من قمة جبل إلى قاع المرض، لن يكون إلا السيناريو الذي تفرضه اللحظة، وهذا جزء مهم مما أراد الطبيب ساكس ايصاله...
فالوقوف في الجهة المقابلة شيء ليس بالعادي ولا السهل، أعتقد أن ساكس قد مُنح منحة لا يحظى بها الكثيرون، فلو لم يتغير لديه الكثير جداً لما قرأنا مثل هذا الكتاب يوماً.
كنت في مرحلة الدراسة الجامعية درست فصولاً عن العلاج بالقراءة، ولا أدري ما هو السبب الذي جعلني أربط بينها وبين فكرة العلاج بالمشي والموسيقى وكل ما كتبه ساكس عن تجربته القاسية.
أعتقد أن القاسم المشترك بين التعاطي مع كل من تلاوة القرآن الكريم والموسيقى - مع حفظ الاحترام والمكانة العظمى للقرآن - يكمن في الانسجام والاسترخاء الذي يعمل على استسلام المتلقي استسلاما تاماً للصوت الخارجي واستسلامه الروحي التام والقضاء على ضجيج النفس الناشئ من صراعها الحاد مع الوضع القائم في وقته (وأعني المرض، القلق... الخ.) لذلك فأنني أؤمن بأن للموسيقى تأثيرها وللقرآن الذي يصلك بالله - وهذه مسلَّمة – تأثيره.
وقد جربت كلا الأمرين سواء مع الألم الروحي أو العضوي، لكن التجربة تجعلني أنتصر للقرآن دوماً ليس لأنني مسلِّمة بقدسيته؛ بل لأنه في طريقة علاجه وصرف التفكير عن الألم يأخذك للأعلى، بينما الموسيقى كانت تجعل الألم أحياناً يتحول إلى كآبة.
جعلتني الرواية أفكر في أن بعض الهموم التي يعاني منها الآخرون تكون نافذة ضوء لهم إن استطاعوا التعامل مع الستائر التي تحجب منفذ الضوء، لكنها من بعيد تبدو أجلى وأوضح وليس من مبدأ: مصائب قوم عند قوم فوائد.. بل من مبدأ التخلق بأخلاق الأذكياء وحذو خطوهم.
كيف يمكن ألا أخرج من قراءة الكتاب برغبة مضاعفة وكبيرة لقراءة (كانت) مثلاً، والقضايا والقيم "الكانتية" حسب وصف الكاتب، وحتى قراءة روايته "الرجل الذي ظن زوجته قبعة" وكتاب "الفجوة بين الحاضر والمستقبل: الحاضر السرمدي" لهانا أرندت التي تحدث عنها في أحد الفصول؟ أظن أن ذلك غير ممكن!
أتوقع أن الفكرة الحقيقية من الرواية هي أن الكاتب أراد تلميع الفرق أو الحجاب بين موضعين وبين إنسانيين متقابلين، وكأنه يطرح تجربة حية لبيت الشعر: لا يعرف الهم إلا من يكابده :: ولا الصبابة إلا من يعانيها.
وفي اختبارات الطبيب ساكس مع الآخرين كان يلتمع الحاجز بين موضعين أو حالتين، كيف كان يرى ما يراه المرضى الآخرون؟ تلك المنحة التي لا تكون بالخيال قدر ما تجيء بالتجربة...
وأتوقع أن هدف الطبيب الرئيسي أن يفجر هذا الصراع على الورق منذ تراسل مع صديقه، فالهدف كان واضحاً، وواضح أيضاً نجاحه في النهاية سواء في القفز حيث يريد واقعاً، أو إيصال هذا الدرس للقارئ!
ولكن على الجهة التي يقف فيها كطبيب، تمنيت أن أقرأ عن نظرته لمرضاه ولو حالة واحدة منهم بعد ما حصل معه، يعني لو أنه لم يكتف بسرد ما حصل معه لاحقاً.
وقد استفزني الأخصائي النفسي جداً حتى إنه جعلني أتخيله كاذباً... فكيف يستغرب على طبيب أن يحلّق بإنسانيته بينما يفترض بالأطباء بشكل خاص ألا يتخلوا عنها!
أخيراً...
أرى أن تصوّري كان أوضح قبل أن أبدأ القراءة حيث توقعت سرداً عادياً لا يختلف عن الروايات الأخرى، بينما في النهاية وجدت ازدحاما بداخلي وكأنني أريد أن أؤلف رواية عنها، ولم أبدأ بفكفكة وتشتيت هذا الازدحام إلا عندما بدأت بكتابة أغلب ما فكرت به أثناء القراءة..
وكأن هناك (قبل.. وبعد) وفي المنتصف حلقة مفقودة! هي الرواية التي ظننت أنها ستحكي (وتحكي وفقط) قصة مسلية.. بينما كانت تقوم بتلميع حجاب حاد بين صنفين من الناس موضعين من المواضع.
غزة
الثلاثاء
31 مارس
2015م