كنت منهمكا في قراءة رواية مملة و ثقيلة لواحد من أفضل من كتب الرواية في المائة سنة الأخيرة. و لكنها ظلت قراءة بطيئة و مرهقة حتى وصلت إلى منتصفها فتملكتني الرغبة في تركها و الاكتفاء بأربعة عشر كتابا قد قرأتهم لذلك الكاتب قبل ذلك و منهم ما أسر قلبي و منهم كذلك المتوسط و الغير مناسب لي. تركتها بالفعل بلا رجعة على غير عادتي في إتمام ما بدأته سواء في القراءة أو في حياتي بصفة عامة و فررت أن أخالف قاعدة أخرى بالمرة. فعندما تبدأ الفوضى في حياتنا لا نعلم أبدا متى ستنتهي. القاعدة الثانية التي خالفتها هي تجاوز قائمة القراءة التي غالبا ما التزم بترتيبها بصرامة إلا في بعض الحالات الطارئة. أردت كتابا لا أملّ منه و لا أتوقف في منتصفه قائلا. إيه اللي جابني هنا.
أخذت أتصفح قائمة القراءة حتى وقعت عيني على كتاب ذا تقييم أربعة نجوم من حوالي مليوني قارىء لكاتب كبير لم أقرأ له من قبل. ماذا أريد أكثر من ذلك؟ بدأتها بلا تردد أول أمس و أنهيتها بسعادة كبيرة اليوم مرددا العبارة المأثورة: ربح البيع.
دستوبيا للكاتب الإنجليزي ألدوس هاكسلي الذي كتبها في الثلث الأول من القرن العشرين قبل الحرب العالمية الثانية ببضع سنوات و صنفت كواحدة من أفضل مائة رواية مكتوبة بالإنجليزية. و يقال أن جورج أورويل تأثر بها عند كتابة أشهر رواياته بعد ذلك بنحو عشر سنوات.
يتحدث هاكسلي عن المجتمع الفاضل الذي تحقق بعد حرب السنوات التسعة المتخيلة و الذي جعل التقويم العالمي يبدأ من عصر ما بعد فورد الذي قاد ثورة حقيقية لتغيير المفاهيم العالمية مم خلق عالما جديدا يختلف كلية عن عالمنا الحالي. عالم مليء بالرفاه و المتعة و الاكتفاء. عالم سعيد ليس فيه ألم و لا شقاء و لا احتياج. عالم أشبه بالجنة الموعودة في العالم القديم الذي نعيش فيه الأن. عالم بلا كبت و لا مسئوليات اجتماعية و لا ضغينة من أي نوع.
هل تمنيت أن تعيش في هذا العالم؟ إن كانت إجابتك بلا فقد أصبت فأنا أيضا لا أهتم مطلقا بعالم المتعة المادية هذا. بالطبع أحب المتع المادية و أبدد الكثير من وقتي و رزقي لأصل لها و لكنها في النهاية ليست الغاية بل هي مجرد وسيلة. قد لا ندرك ذلك في طفولتنا و مقتبل شبابنا و لكن ما أن يبدأ الشيب بغزو رأسنا حتى ننتبه إلى حقائق الأشياء رويدا رويدا.
في أواخر التسعينات من القرن الماضي أعجبني مقالا لمصطفى محمود كان قد نشره في الأهرام يتحدث فيه عن الجنة. وصف ما فيها من المتع و الملذات بصورة شبه تفصيلية ثم أردف أنه غير مهتم بكل ذلك فالجنة بالنسبة له مكتبة. كل ما سيطلبه من الله مكتبة بها كل ما صنفه البشر من علوم و آداب و كفاه بذلك متعة و لذة و غاية. طبعا انبهرت بما قال و عقدت العزم على أن يكون هذا طلبي أنا أيضا و لكن لا بأس من بعض الحور العين و أنهار الخمر و العسل على هامش المكتبة و كفواصل بين الكتب سيما الدسم منها. في ريعان شبابي أيضا تأثرت برباعية لصلاح جاهين ينتقد فيها مفهومنا للجنة بصفة غير مباشرة فيقول:
البط شال عدّى الجبال والبحور
ياما نفسي أهج.. أحج ويا الطيور
أوصيك يا ربي لما أموت.. والنبي
ما تودنيش الجنة.. للجنة سور
عجبي!!
يطرح هاكسلي هنا في هذه الدستوبيا الساخرة رؤيته لعالم بدأ لتوه في حرب غير معلنة بين الغرب بماديته و الشرق الذي بدأ لتوه في التبشير بالجنة الشيوعية فيدمج الرؤيتين بعبقرية و براعة عبر مجتمع جديد مادي بالكامل طبقي بالكامل كالمجتمع الغربي إلا أنه مسيطر عليه بالكامل كالمجتمع الشيوعي و كأنه أخذ الحسنيين و انتقى من كل معسكر خير ما يبشر به فصنع جنة نموذجية كما يريدها الطرفان ثم دفع بالأحداث للنهاية التي تقول أن كلاهما خطأ و أن العالم غير المثالي بكل معاناته و خطاياه أفضل من تلك العوالم خالية الدسم منزوعة الأظافر.
بالطبع غلبت النزعة الصوفية و الاتجاه المحافظ عند هاكسلي على رؤيته و أفقدت الرواية بعض العمق إلا أن الرواية كانت من الخفة و البساطة ما جعلها تؤدي غرضها في إيصال الفكرة لشريحة كبيرة من القراء على اختلاف ثقافاتهم و هو ما تجلى في ملايين النسخ التي بيعت و ما زالت تباع منها حتى الأن.
أعتقد أن الربط بين فرويد و فورد و أحدهما يمثل الثورة الرأسمالية الحديثة و الأخر يمثل الثورة الجنسية هي نقطة في غاية البراعة من الكاتب و قد دمج الشخصيتين و رفع صاحبهما لمرتبة الإله الأوحد أو المعلم الأكبر على أقل تقدير كما أن اللمحة الأخرى في جعل الشخصية المسيطرة في أوروبا الغربية أسمه مصطفى موند كان ارهاصا بقرب عودة تركيا إلى المجتمع الأوربي حيث أن مصطفى كمال أتاتورك كان يرأس تركيا في فترة صدور الرواية مدشنا ثورة أخرى على تاريخ تركيا الإسلامي و هويتها الشرقية مقتربا بها نحو القيم الغربية الأوروبية و هو ما لم يحدث حتى الأن بعد مضي ما يقارب قرنا من الزمان.
أحببت الرواية و ان كنت لم أتماهى مع كل أفكار الكاتب و لكنها عمل عظيم جدير بالخلود و يستحق أن يقرأ مرات عديدة.