قطار إلى باكستان
الصورة الموهومة عن الأدب في مخيلة بعض القراء تتمثل في كون الأدب صوت المهمشين الذين لا منبر لهم، نصير الحق والعدالة والإنسانية.
لكن ، هل يمكن للكاتب أن ينفصل عن انتماءاته الطائفية والعرقية والايديولوجية؟
هل من الممكن أن نطالبه " بالموضوعية" في فن يقوم من أساسه على " الذاتية"؟
وهل يمكن ان نفصل بين توجهات الكاتب وعمله الأدبي، ونحاكم النصوص المغرقة بنزعة إنسانية بعين من تبصّر بتعصب من كتبها؟
تقفز إلى ذاكرتي صورتا بورخيس وهو يقف أمام نصب الهولوكست ، وبيتر هاندلكه ومواقفه المناصرة للزعيم الصربي " ميلوسوفيتش" الذي تزعم عمليات " الإبادة العرقية" لمسلمي البوسنة والهرسك، وأقول: كيف يمكن لي أن أقرأ بقلب وعقل منفتح، وأدع للقلب عنان الاستغراق بالنص لمثل هؤلاء الكتّاب؟ .
إلى أن قرأت رواية " قطار إلى باكستان" ، ولا أقصد أن كاتبها قد أعلن صراحة عن تعصبه لأبناء طائفته من السيخ، لكن من يقرأ ما بين أسطر الرواية يكتشف أن حيادية الكاتب الطائفية كذبة في طرحه للأحداث الطائفية عقب تقسيم الهند في عام ١٩٤٧، عند خروج الانجليز .
لكن هل على الكاتب أن يكون حيادياً من الأساس؟ أليست الحيادية هي مهمة المؤرخ لا الأديب؟
لكن مهلا، هنا الحيادية ليست ترفاً، فحين يكتب أحدهم نصاً قد يثير النفوس، ويوغل الصدور، ويذكي نار العنف ، على الكاتب أن يكون أكثر حذراً فيما يقول ويكتب.
ضمن إطار " التخيل التاريخي" يسرد الكاتب خوشوانت سينغ أحداث روايته ، التي جرت في قرية حدودية متخيلة " مانوا ماجرا" ، يعيش فيها السيخ إلى جانب المسلمين والهندوس بسلام، لم تصبهم بعد لوثة العنف الطائفي، التي اعقبت انفصال باكستان عن الهند، وأودت بحياة و تهجير الملايين من قراهم ، هجرة باتجاهين، المسلمون يهاجرون من الهند إلى باكستان، والسيخ والهندوس يهجرون باكستان إلى الهند، والقطار ينقل الأحياء منهم، إلى أن تحول إلى قطار لنقل الأشباح، وجثث آلاف ضحايا المجازر الطائفية.
في غمرة هذا العنف، تقتل عصابة "مالي" المرابي الهندوسي، وتلقي الشرطة القبض على البادماش" الحرامي" جوغت سينغ، متهمة إياه بقتل المرابي، يستنكر اهل القرية التهمة، فصحيح ان جوغت سينغ قاتل ابن قاتل وحفيد لقاتل، وصحيح أن والده اعدم شنقاً، لكن من المعيب اتهام جوغت بقتل احد ابناء قريته! فماذا بقي من الشرف إن قتل ابن قريته؟
لا مستحيل، لا يقتل البادماش ابناء قريته ، هكذا هو العرف، ولابد أن يكون هناك مجرم اخر وراء الجريمة.
لأصدقكم القول، لم يكن جوغت سينغ في حالة تسمح له بالقتل ساعة وقوع الجريمة، فقد كان في موعد غرامي مع حبيته " نوران" ابنة الملا شيخ المسجد، في علاقة تجاوزت حدود الايان: سيخي يعشق مسلمة.
لكن لابد من كبش فداء، فما كانت من الشرطة التي تمثل أقصى درجات الفساد الاداري ، الا ان تقبض على جوغت سينغ، وقد راعها قدوم شاب اسمه" اقبال" ، الباحث الاجتماعي اليساري، الذي نام في " معبد السيخ" "غولادوارا "، لكنه كان بفرض أن يصرح عن ديانته، فاسم " اقبال" منتشر بين المسلمين" محمد اقبال" و السيخ و الهندوس.
فما كان من الشرطة الا ان زجت في السجن بذاك الباحث الذي وصل للقرية امام اعينها بعد يوم من وقوع الجريمة على القطار .
يمضي الكاتب منتقدا جهل المجتمع الهندي الأمي، الذي لم يكن يعنيه الاستقلال عن الإنجليز شيئا، فهم يرون أن الهنود المتعلمون الذين يحتقرون الفلاحين سيأخذون مناصب الانجليز، فيما سيبقى الفلاحون على حالهم من البؤس والفقر.
لا يخفي الكاتب استياءه من خنوع الهندي، وانبهاره بكل ما يمت لمحتله من حيث اللغة والشكل، نقد لاذع لحالة " الأمية" والجهل، و الجبن وضعف الشخصية، فالكل يهاب اجهزة الشرطة الفاسدة، فالقاضي هوكم تشاند يستغل منصبه لقضاء سهرات ماجنة مع المومسات، ولا يرى سوءا لو قتل بضع آلاف بل ملايين من بلد يكاد بنفجر سكانيا بينما يرزح تحت الفقر والتخلف.
لكن يأتي قطار محمل بآلامن جثث السيخ قادما من باكستان، وكل ما على القاضي أن يخفي أثرها دون أن ينفجر العنف في قريته، يحرق الجثث، يتطاير الرماد، ويشم اهل القرية رائحة شواء اللحم البشري، ولكن ويا للمفارقة كل ما يشغل القاضي هو البحث عمن يتهمه بقتل المرابي الهندوسي، بينما تسلل بعض المهاجرين السيخ المتعصبين من باكستان الى قريته وبدؤوا يحشدون الجموع لتأليبهم ضد المسلمين في القرية.
يمر قطار اخر محمل بالجثث السيخية قادم من باكستان، وهذه المرة تغرق بعض الجثث في النهر، وبعدها تدفن في مقبرة جماعية.
هذا الامر دفعني للتفكير، لماذا سلط الضوء فقط على الحوادث التي كان ضحاياها من السيخ؟
واكتفى بإشارات عابرة وسريعة لما تعرض له المسلمين من مجازر، بشكل لا يدفعك للتعاطف، في حين انه افاض وأبدع في رسم مشهد الموت للضحايا السيخ، لدرجة تدفع القارئ للبكاء.
بل ان الرواي لم يخجل من وصف المسلمين بالقتلة وبأنهم ضد المرأة وانتقدهم بشكل فاضح، الأمر الذي دفعني إلى اعادة قراءة الصفحة لأتأكد إن كان الكلام على لسان شخصية من شخصيات الرواية، لأجد انه صوت الراوي العليم!
تمضي احداث الرواية ليقرر القاضي ترحيل المسلمين، بعد ان نجح بعض الغوغائين في اقناع اهل القرية بقتل جيرانهم المسلمين.
لكن ويا للمفارقة، ما فشل به القاضي ، والباحث الاجتماعي، من نزع لفتيل العنف، نجح به القاتل البادماش جوغت سينغ، فأنقذ قطار المسلمين من مذبحة مؤكدة، لإنه انتصر للحب، فحبيبته " نوران" التي تحمل في احشائها طفله على متن القطار.
وها هنا ايضا، يسند الكاتب دور البطولة للسيخ، فيما يغيب المسلمون، ولا نسمع لهم صوتاً إلا صوت استغاثاتهم المعاصرة على شاشات التلفاز اليوم!
#رائدة_نيروخ
#قطار_إلى_باكستان
#خوشوانت_سينغ