أكدت هبة أحمد حسَب قبل ترك روايتها بين يدي القاريء على أن "فريدة وسيدي المظلوم" الصادرة هذا العام عن مركز المحروسة للنشر والتوزيع ليست سيرة ذاتية، وأن المختلق فيها يغلب الواقعي الحادث بالفعل، ولكنها أنهت صفحاتها بعدة صور فوتوغرافية، أغربها صورة لسعد أحد أبطال الرواية ولأبيه الحاج عبد التواب/علي شحاته (الاسم الحقيقي)، الصورة التي تحدثت عنها الكاتبة بين صفحات الرواية وأنها التقطت بعد وفاة الحاج عبد التواب وبالرغم من ذلك صعق المصور أثناء تحميض الصورة عندما ظهر الرجل بكامل جسده مواجها لمقام السيدة سكينة.. لن يفلح القاريء في التفريق بين الحقيقي والمتخيل في هذه الرواية، لأن الكاتبة أجادت خلط الأسطورة بالكرامة بالواقعي، من خلال "سيدي المظلوم" الضريح الكائن بحي الشرابية، بناسه وزمنه ومعالم حارته المصرية في الفترة بين اعتلاء الملك فاروق عرش مصر وحتى تولي الرئيس مبارك الحكم، تنقلت هبة بين قصور العائلة المالكة قبل وبعد ٢٣ يوليو من خلال رصد الملكة المنسية فريدة /صافيناز ذو الفقار والتي اضطرت إلى بيع ملابسها وتعلم الحياكة ورسم اللوحات لتسد احتياجاتها وتزور بناتها خارج مصر، وبين حياة العامة من خلال أسرة إبراهيم العطار وزوجته ناعسة التي تعمل "خياطة" وتصاحبها في رحلتها ماكينة "أبو الهول" وقد حاكت فوقها ملابس بناتها وأحفادها وغيرهم من زبائن سيدي المظلوم والأيتام والفقراء الذين تكفلت بهم الملكة فريدة والتي كانت صديقتها "حُسن شام" -وقد لازمتها طيلة حياتها -جارة ناعسة،حلقة الوصل بينها وبين الملكة وظلت تراسل ابنتها زينب حتى آخر أيامها ولم تلقها قط.
استطاعت هبة أن ترسم شخصيات روايتها ببراعة محاولة أن تثبت للقاريء صدق مقولتها الأولى قبل الإهداء :"أنا وحدي شهرزاد وسائر النساء بطلات حكاياتي"، تعلنها هبة صريحة بأنها تدرك جيدًا حجم موهبتها، وتمتلك أدواتها، غير مبالية بما قد يستفز القاريء من ثقة وقبل أن يقرأ شيئا من الرواية، وبرغم ما قد يحسبه أنها رواية للنساء وعن النساء إلا أنها عالم يزخر بنماذج الرجولة الآسرة ، بين الأب الإنسان الذي يخطيء في حق ابنته ويختنها ثم يندم فيصر ألا يكرر فعلته مع أختها، غير مبال بالعرف المجتمعي الظالم في قلب سيدي المظلوم، وبين العاشق الذي لم يثنه الزمن عن الارتباط بمحبوبته حتى بعد زواجها ثم ترملها فيضمها وأبناءها في كنفه، وصبي القهوة "صديق القردة" ، الذي يتزوج عن طيب خاطر بالمعلمة ونيسة القعيدة البكماء وقد رأي فيها كل معاني الأمومة والأنوثة والجدعنة، والحمو الوليّ الذي يحتضن زوجة ابنه ويعتبرها ابنته التي طالما تمناها وعلمها من أمر التحصين وحب وزيارة آل البيت، ولا يسمح لابنه بظلمها، عالم قد يبدو مثاليا عصيا على التصديق، عالم يحكمه الحب رغم كل المثبطات المحيطة ورقة الحال، إلى الحد الذي يجعلك تتأمل وتبحث إن كان ذلك فعلا هو حال المصريين في الأيام الخوالي، ومتى تلفت نفوسنا وأقفرت ؟
تصنع "هبة أحمد حسب" لغتها الخاصة فهي على سبيل المثال تفسّر للقاريء مفردة القرافة من وجهة نظر مهجورة ومن وحي ما تشعر به من هدأة وطمأنة للنفس عند زيارة المقابر، فتُرجِع الكلمة إلى "القَ رأفة" وليس إلى ما يشاع عن كونها قبيلة يمنية جاورت المقابر فسميت باسمها.
كما أنها لعبت ب"سيدي المظلوم" ودفعت القاريء إلى التفكير إذا ما كانت أرض سيدي المظلوم تجذب المظاليم إليها لتنصفهم أم أنها لعنة تصيب من يسكن بالحي ليتذوق قاطنوه ما ذاقه سيدهم من قبل..
حتى فيما يختص بالأسطورة أو الكرامة فهي تنتقي ما تريد وإن كان أقل شهرة، وتتجاهل الشائع فقيل أن ضريح سيدي المظلوم ما هو إلا ضريح محمد المظلوم الذي اتهم بقتل أحدهم وبرأته السيدة نفيسة بعد جعل الميت يقوم ويدل على قاتله، حتى أن محمد المظلوم نُسب إليها كابن وهذا لم يثبت .
انتقت كذلك الفنان محمد فوزي وكرست له "حورية كويني" متيمته الجميلة التي تشبه ماري كويني وقد فشلت في الحصول على دور للسينما ولكنها أخلصت له الحب طيلة حياتها، تجاهلت هبة أم كلثوم إلا من طيف "الصب تفضحه عيونه "دون الرجوع إلى مغنيها الأصلي" ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، وتذكرت فوزي وأحلام ونازك..
كما اختارت الكاتبة التقويم القبطي وذكرت ما يصاحب الشهور القبطية من أمثال شعبية مصرية أصيلة مستوحاة من طقوس الفلاحة المتربطة بالبذر والحصاد وغيرها، ولكنها أيضا تصر أن" تفصّل" المثل على طريقة الجدة الكبرى ناعسة التي تعمل بالحياكة بما يناسب أحداث الرواية المذكورة، بل وتغير فيه أحيانًا بحسب ما ترى فتقول مثلا :
"توت يقول للحَر :موت" لكن بعد موت عبد الناصر في ١٨ توت /٢٨ سبتمبر غيرت ناعسة لقبه إلى توت يقول للحُر :موت ".
أتمنى أن تحظى رواية فريدة وسيدي المظلوم الصادرة عن مركز المحروسة للنشر والتوزيع بالاهتمام المستحق من القراء والنقاد فهي رحلة ممتعة قادتنا فيها هبة أحمد حسب باحتراف إلى زمن تُقنا إليه وتمنيناه ولم نعشه.