يبدو عنوان الرواية للوهلة الأولى جملة تامّة، ولكن قراءة النص ستضيف إليها ما خفي على الغلاف، فهناك حيث ينتهي النهر يبدأ البحر، وقد يبدأ عنده حب جديد، أو موت جديد، أو بعض من هذا وكثير من ذاك؛ المهمّ أن البحر هو بطل هذه الرواية، وإن ووري في عنوانها خلف النهر.
سلمى البنت القاهريّة التي يتبعها سوء البخت، والتي خرجت لتوها من قصة حب حطمت قلبها، سلمى التي لا تعرف ما تفعل دون أن تمسك برأسها، ولا تعرف أين دُفن أباها رغم أنها حضرت جنازته، تقرر البحث عن قبره في "رشيد"، مدينة صغيرة أقرب للقرية، تقع على دلتا النيل. تواجه سلمى البحر ولا تعرف، أعليها أن تصادقه أم تعاديه؟
في إطار هذه الحبكة تأخذنا الروائية مريم عبد العزيز لنعاين عن قرب وجهًا آخر للبحر، وجهًا يناقض صورته النمطية الشاعرية، الوجه الذي تطفو فوقه جثث اليائسين في محاولاتهم الأخيرة للخروج عن دائرة بؤسهم. فتكتشف سلمى في مقارنة تحمل مفارقة حزينة أن: "الأرض هنا تضيق بمن عليها، بينما يتّسع البحر للجميع". وينتقل السرد بسلاسة بين الأصوات ووجهات النظر، من لسان الراوي العليم إلى صوت سلمى ثم حامد.
وفي أثناء رحلة البحث عن أبيها تتغير سلمى، وتخطو خطواتها الجديدة باندفاع نحو مجتمع جديد، بيئة جديدة، وحب جديد، رغم أن الحب قد يعدّ ترفًا في مواجهة الموت، ولكنه يقاوم، ربما هذا هو سبب وجوده من الأساس؛ المقاومة.
صحيح أن الرواية تعرض أزمة الهجرة غير الشرعية في قالب دراميّ واقعيّ، ولكنها تعرج وإن بصورة رمزية أو مبهمة على مثلث سلطوي: سلطة الدولة، سلطة الرجل الشرقيّ، سلطة الحبّ، فتتماهى هذه السلطات مع كل ما عداها من تعاسة إنسانية.
وتساءلتُ أثناء قراءتي: في بحثها عن قبر أبيها، هل كانت سلمى تبحث عن الحب؟ وهل بحث أم بطة عن جثة عماد هو بحث عن حب آخر مفقود؟ وبحث جميلة عن جثة تؤكد لها موت حسين كذلك.
ثمة عدّة أمور أعجبتني في النص، أذكر منها:
نجحتْ الكاتبة في إثارة الأسئلة منذ الفصل الأول، وهي لا تكاد تجيب عن سؤال إلا لتطرح غيره، وبهكذا يجد القارئ نفسه منجرًّا وراء فضوله، وهذا أحد أهم مقومات نجاح العمل الروائي
الملامح السلوكيّة للشخصيّات واضحة ومميّزة، إذ تتحدث كل منها وتتصرف بناء على خلفيتها الثقافية وتاريخها.
التبدل اللطيف في اللهجات المحلّيّة.
التغيرات التي طرأت على شخصية البطلة وباقي الشخصيات: جميلة، مصطفى، أم بطة، وحامد بالطبع
عكّر عليّ بعض قراءتي تكرار الوصف الشاعري في بعض الفصول، ولكنه أمر عاديّ تقبّلته إذ أني أتورط فيه أحيانا، وما يميّز الروايات الأولى ازدحامها بالقضايا التي يرغب الكاتب في طرحها، إنما في قالب شعريّ، إذ يبدو وكأن الوقت والمقام يضيقان به فيقرر أن يتحدث عن كلّ شيء بمشاعره وأحاسيسه المطلقة، غير أن قوة الفصول الأخيرة وتأثري بها منح الرواية 5 نجوم بجدارة (وسامحك الله يا مريم على ما فعلتِ بي).
مريم عبد العزيز قلمٌ يعد القارئ ويرتفع بتطلعاته، وأنوي تكرار تجربتي معها بكل تأكيد.