يسلط الكتاب الضوء على التفاصيل الدقيقة لحياة اللاجئين القادمين من شتى بقاع العالم، لتضفي بذلك لمحة إنسانية عليهم. وكان هدفها إيصال رسالة مفادها أن هؤلاء اللاجئين ليسوا أرقاماً وأعداداً يتم تداولها في نشرات الأخبار، بل إن كل واحد منهم له قصته المميزة، وسبباً مختلفاً دفعه إلى ترك بلده واختيار الغربة.
يسرد د. بارتولو ما لا يمكن نسيانه من حكايات الألم والأمل، حكايات أولئك الذين ضاعوا وغيرهم ممن نجوا. دموع الملح هو بورتريه أدبي حميم لرجل استثنائي رسالته واضحة: "لم ولن نسمح لمخاوفنا أن تحكمنا".
شاهد «بيترو بارتولو» أموراً، وعايش أحداثاً لم يكن ينبغي لأحد من البشر أن يشاهدها أو يُعايشها، وبحكم عمله طبيباً في جزيرة «لامبيدوزا» الواقعة في جنوب إيطاليا، كان على خط جبهة واحدة من أسوأ الأزمات في العالم، ألا وهي أزمة اللاجئين على مدار 20 عاماً الماضية. شاهد «بارتولو» مراكب قادمة من أفريقيا، بصورة شبه يومية، مكتظة بأشخاص يتضورون جوعاً، ويعانون الجفاف ويشعرون بالرعب. ويشير الطبيب إلى أن أولئك هم مَن حالفهم الحظ، لأنهم لا يزالون على قيد الحياة! شاهد الرجل أطفالاً يائسين انفصلوا عن آبائهم، وآباء يحتضرون يتلهفون على أطفال يودعونهم، ورأى شباباً تركوا أوطانهم مفعمين بالأمل، ليشعروا بالرعب بعد أن وصلوا إلى إيطاليا، لأنه لم يعد بمقدورهم التحدث، ورأى مرفأ الجزيرة سيئ السمعة مكتظاً بالجثث.
يبدأ بارتولو سرده بوصف غرقه الوشيك بعمر السادسة عشرة في مياه البحر الأبيض المتوسط إثر سقوطه من قارب والده للصيد. وفر له الإحساس بالغمر وهو يلهث منقطع النفس والشعور بالوحدة قاعدة لتفهم عذاب أشخاص لا حصر لهم عانوا المصير ذاته- ولكن من دون النهاية السعيدة في البقاء أحياء.
كان يعالج الأحياء ويشرح جثث الموتى الذين يصلون إلى شواطئ لامبيدوزا. ويقول إنه عالج مع فريقه ما يقارب 300000 لاجئ على مدار 25 عاماً.
يقدم بارتولو روايته بكثير من الإنسانية والشفقة. وبالطبع، يعرب «بارتولو» عن غضبه من الظروف التي أفضت إلى المعاناة التي واجهها، لكنه أيضاً تأثر بقوة بشجاعة وتصميم كثير من المهاجرين، وكرم كثير من مواطنيه. فيروي قصة «حسن»، المهاجر الصومالي الشاب الذي رفض التخلي عن شقيقه العاجز، وحمله على ظهره عبر الصحراء إلى ليبيا. وكذلك قصة الطفل النيجيري «أنور»، الذي ترك وطنه بحثاً عن المال لدعم والدته وأشقائه الأصغر سنّاً. ويسلط الضوء أيضاً على المرأة الإيطالية التي أنقذت قطة طفل سوداني لاجئ، ثم سافرت على نفقتها مع القطة إلى ألمانيا لتعيدها إلى مالكها! ويشير إلى أطفال مدرسة إيطالية استخدموا مكافأتهم في شراء دمى لأطفال المهاجرين
يقول بارتولو في كتابه :أن ما رآه لم يجعله يفقد الثقة في رحمة الله أبداً . لكنه يقول إنه أصبح محبطاً بشكل كبير بسبب "البشر الجشعون الذين لا يرحمون والذين يعتمدون على المال والسلطة". وهو لا يضع في هذه الخانة ، اولئك المتاجرين بالبشر فقط ، بل يضع أيضا السياسيين والمواطنين العاديين الذين شاهدوا معاناة المهاجرين ولم يقدموا لهم يد المساعدة.
ويقول واصفا والده الذي كان يعمل صيادا : "عندما يعود للميناء بغنيمته، يكون وجهه عادةً أبيض يغطيّه الملح، تتناثر مياه البحر على الوجه الذي تحرقه الشمس، وتترك خلفها قناعاً من الملح. قناعاً ينبّئ ولا يخبِّئ ، قناعاً يُظهر أصالة الوجود ولا يترك مجالاً للتزييف. أرى القناع نفسه على وجوه المهاجرين اليائسين، الذين قضوا أياماً طوالاً في البحر، تتقاذفهم الأمواج. كلما رأيتهم بهذه الحال، أفكِّر في أبي. كلُّهم أبناء البحر ذاته. كان أبي يعود للبيت كلَّ مرَّة متعباً، لكنه لم يعُد مهزوماً قطّ. الآلام التي يشعر بها تزداد سوءاً، والدموع التي تجد لها مساراً أحياناً على وجنتيه، تتحلّل ويبقى ملحها على بشرته. كانت تلك هي دموع الملح".
ويختم بارتولو مذكراته بأنه في عام 2014، التقى المخرج الإيطالي «جيانفرانكو روزي»، الذي جاء إلى «لامبيدوزا» لإنتاج فيلم وثائقي حول اللاجئين، بعنوان «نيران في البحر»، والذي أصبح مرشحاً لجائزة «الأوسكار» في 2016. ويقول: «لقد منحني ذلك سعادة غامرة، فقد كان رسالة واضحة لا لبس فيها للعالم، يبدد الأكاذيب والتحامل المحيط باللاجئين، ويوقظ ضمير الشعب، ويفتح أعين الناس». بيد أنه كان من دواعي الأسى بالنسبة لـ«بارتولو» أنه بعد صدور الفيلم بوقت قصير، تم تشديد الإجراءات على الحدود في أنحاء أوروبا، وصُفّدت أبواب كثيرة في وجوه اللاجئين!