في روايتها "السندباد الأعمى أطلس البحر والحرب" تحدثنا بثينة العيسى عن الحب الضائع عن الخيانة و"جرائم الشرف" كما يقال عنها، ولكنها في مستوى آخر تتحدث عن البحث عن الهوية، عن ضياع الأحلام في الأوطان التي لايمكن الناس من التعبير عن أنفسهم فيها، تأتي السياسة على خلفية الحدث الرئيس للرواية ولكنها تأتي مؤثرة كل التأثير، فالأمر ليس اعتقالاتٍ أو مظاهرات أو مطالبات بالحرية، بل نحن الآن إزاء بلد يصحو مواطنيه ليجدوا أنفسهم في دولة محتلة، ومن هذه الصدمة تبدأ استعادة علاقتهم بأنفسهم وبالآخرين، حتى يتمكنوا من تحرير بلادهم.
تبدأ الرواية بحدث فتح السجون عشية غزو العراق للكويت في صيف 1990 ثم تعود بنا عامًا للوراء لنتعرّف على أبطال الرواية، وما الذي دفع بواحدٍ منهم إلى أن يكون سجينًا في ذلك الوقت، نتعرّف على "نواف" وعلاقته الملتبسة بزوجته "نادية" وصديقه "عامر"، وبينهما فتاة صغيرة تجاهد لكي ترى وتسمع "مناير" تلك الشخصية التي تنمو بين سطور الرواية تدريجيًا، حتى نفاجئ بها في الفصل الأخير (وبعد ثلاثين عامًا) وقد أمسكت دفة السرد وقادته إلى نهايته.
نتعرف على شخصيات الرواية من خلال المواقف والأحداث مباشرة، سجين يجد حريته فجأة، زوجة ذات أحلام ضائعة في الكتابة والحب، حبيب حائر ضعيف لا يقوى على المواجهة، ثم الحدث الصادم/ المفاجأة، الغلطة التي تتقوّض من أجلها الحياة كلها والعلاقات بين عائلتين، وتأتي بعدها مباشرة ذلك الحدث الأكبر الغزو العراقي للكويت، وما يتركه من آثار على نفوس شخصيات الرواية.
من خلال مقاطع الرواية القصيرة نتعرّف على شخصيات العمل واحدًا واحدًا، ومن خلال مشاهد منتقاة بعناية نعرف ما يعتمل في صدورهم، وما يريدون أن يكتموه في دواخلهم، ولكنه رغمًا عنهم يطفو إلى السطح، ويمزق ويدمر ويغيّر مصائر وحياة كل أفراد الرواية.
لعبة الصمت والكلام
قديمًا قال العرب "تكلم حتى أراك"، ومنذ بداية الرواية يحضر أثر الكلمة التي تغيّر المصائر كلها، كلمة سعت نادية للتعبير بها عن نفسها في البداية (يجب أن نتكلم) فتنغيّر بها مصيرها، كلمة أخرى لم يبح بها نواف لابنته فبقيت تؤرقها طوال حياتها، بل وكلمة أخرى أطقلتها الطفلة "مناير" ببراءة كادت أن تودي بحياة بأسرها، كلمات قد تكون كما تعبّر عنها الكاتبة (طفولية وغاضبة، أمضت السنين تنحتها، تدبب أطرافها وتبرّد مخالبها، جاش باطنها فجأة، وأحسّت أنها عاجزة عن مواصلة التظاهر أنها بخير) ولكن هل يغيّر الكلام شيئًا؟
هكذا تتساءل هدى، وهكذا تواجه بنت أخيها بعد سنوات، وتواجهنا الكاتبة في نهاية الرواية، ماذا بعد كل هذا الكلام وكل هذه الكتابة؟! هل انتهت المشكلة، هل بردت النار؟ هل يمكن أن تزول الآثار بمجرد زوال العدوان؟ هل هناك ما يسمى بالتحرير فعلاً؟! أم أننا نبقى أسرى لأفكارنا وهواجسنا، ومن الأفضل أن نترك الأيام تمر، ويبقى السندباد أعمى لا يرى ابنته صغيرة ولا كبيرة، كما لم يرى أمها رغم كل محاولاتها، وكأنه راضٍ بذلك الدور، لا يواجه ولا يعرف ولايعترف!
(بدت نائية على نحوٍ خاص، تتسرّب من بين أصابعه كخيوط الرمل. لا يستطيع أن يراها ولا حتى داخل رأسه، لايدري ما الذي يجعلها تأرق، وتتهرّب من المضاجعة، وتبدو أنفاسها وكأنها تنتزع من العالم انتزاعًا)
التفاصيل البناءة/المؤثرة
تشحذ بثينة العيسى الرواية بعدد من التفاصيل التي تبدو للقارئ لأول وهلة عابرة وثانوية ثم يفاجئ (وتكون مفاجأة جميلة طبعًا) أن هذه التفصيلة التي أثارت حنقه ـ ربما ـ قد بني عليها مشهد مهم جدًا في الرواية، بل وتحوّلت من بعده مسار الأحداث، لعل أكثر هذه التفاصيل حضورًا في ذهني الآن هو اسم القطة الذي احتارت "مناير" فيه في البداية، ثم وجدته بعد ذلك، وتفاصيل أخرى عديدة تؤكد أن هذا البناء الروائي محكم، وأن كل شيءٍ فيه مقدرُ وموضوع بحساب، لامجال هنا للثرثرة المجانية، نحن إزاء قضية هامة وشائكة، ومصائر أبطال نشعر أنهم أصبحوا جزءًا من عالمنا بالفعل، بل نكاد نسمع صرخاتهم ونشيج بكائهم مرة وضحكاتهم وتكبيراتهم وفرحهم في مراتٍ أخرى!
(ألم تجدي لها اسمًا بعد؟ سأل فواز وهو يداعب أذن الهريرة في حضن مناير. "لأ" فمن أصعب الأشياء أن تسمي قطة، خاصة وأن مناير تريد أن تطلق على الهريرة أجمل اسمٍ في العالم، لولا أنها لا تعرف ماهو؟)
تقوم الرواية كلها من خلال الراوي العليم، رغم أنها تمارس في البداية والنهاية (بشكل محسوب تمامًا أيضًا) لعبة الإيهام بعدم المعرفة، لاسيما في أسماء أبطال الرواية إذ تقول (ليكن اسمه نواف) (ليكن اسمها هدى) والتي سندرك في الصفحة الأخيرة من الرواية لماذا كان ذلك الإيهام. ولكن ثمة مقدرة عالية على البناء، وتوزيع الأدوار بين أبطال العمل الأساسيين والثانويين (هل هناك بطل ثانوي؟) باحتراف، وتقسيم المشاهد وفقًا لتصاعد الأحداث.
(تعرف نادية، وعلى نحوٍ غامض، أنها تريد أن تكتب رواية تشبه قصة الحلق، رجل وامرأة، حبٌ وخطيئة، طوفانٌ وفلك، قيامة وحساب. تريد أن تكتب القصة التي يكتبها جميع الكتّاب، لأنها قصة مقدسة، كلاسيكية، تشبه ذوقها)
يمكننا أن نتوقف طويلاً أيضًا عند بناء الشخصيات، وكيف يتم اختيار المواقف والأحداث التي يتم تقديمهم من خلالها، عامر، وفواز كيف يتم رسم كل واحدٍ منهما منذ بدايات الشباب حتى مواجهة الحياة والمسؤولية، كذلك الجدة تلك العقبة القوية التي تقف وتوجه بكلمة وإشارة، ولكن يبقى أثرها باقيًا حتى بعد وفاتها، وبقية النسوة فاطمة وهدى، الصراع الداخلي بين دور الأم والأدوار الأخرى، لكل واحدٍ منهم حكاية وشخصية ومحاولة للتغلب على ما يفرضه عليهم الواقع من تحديات.
وعلى عادة الروايات التي تحمل قضية كبرى، وتتحدث عن الاضطهاد الذي يمارسه المجتمع (بكل أطيافه) على المرأة، وكأنها الآثمة الوحيدة، وكأنه لايمكن أن يتخلص من الذنب إلا من خلالها، حتى بعد مرور السنين (30 عامًا) وبعد أن اجتاح العالم ذلك الوباء اللعين الذي غيّر الكثير من الأشياء والأحياء، بقيت المرأة النقطة الأضعف، يخشاها الجميع ويسعون لإسكاتها! كان يمكن للكاتبة والراوية أن تنتصر أخيرًا لقضيتها وروايتها، لاسيما أن ثمة مناسبة سبقت ذلك (تحرير الكويت مثلاً)، كان يمكن للنهاية أن تكون رومانسية وحالمة، بأن يعترف طرفٌ للآخر بالخطأ وربما يعتذر عنه أيضًا، وربما يندم على ما فعل (ولو مرة) ولكن هل هذه الحقيقة؟ هل يحدث هذا في واقعنا؟ أم أننا نبقى أسرى لأسئلتنا التي لانجد إجاباتها حتى لدى أقرب الناس إلينا.. (لماذا وكيف؟) لذا آثرت الرواية أن تنحاز لهذه الحقيقة حتى وإن كانت قاسية، وللواقع المؤلم لأنه كذلك .. ليس ثمة نهاية .. النهاية محض تلفيق!