"ذكرياتي لا تتبدد تماماً، كأنما اجتُثت من أصلها. فحتى وإن بدت أنها اندثرت إلا أن بقية مُبهمة منها تظل في مكان ما. إنها مثل تلك البذور الخفية التي قد يحدث أن يهطل عليها المطر فتنبت من جديد. ثم، حتى وإن غابت الذكريات، فإن شيئاً منها يظل حاضراً في القلب. رجفة، أو ألم، أو فرحة، أو دمعة."
رواية "شرطة الذاكرة" هي التجربة الأولى لي مع الكاتبة "يوكو أوغاوا"، والتي ستجد لها شهرة ليست بقليلة خارج اليابان وداخلها، وعندما قرأت هذه الرواية تفهم سر هذه الشهرة، لأن الكاتبة تستحق كُل ذلك، مع بعض التحفظات حول هذا العمل.
تبدأ الحكاية بتفصيلة خيالية مُثيرة للاهتمام، ألا وهي اختفاء الأشياء على حسب أهواء السُلطة، تبدأ الأشياء التي تختفي بأشياء بسيطة للغاية تكاد لا تشعر بأهميتها، ثم تتدرج وتتصاعد حتى تُصبح أشياء أساسية، هامة، لا يُمكن العيش دونها، فتقرر السلطات فجأة أن تختفي مهنة ما، أو الروايات، أو طعاماً ما، أو حتى جزءاً من الجسد! ولتنفيذ تلك الاختفاءات عُينت إدارة للسيطرة عليها وضبط الخارجين عن تعليماتها تُسمى باسم "شرطة الذاكرة"، وهي هيئة تعسفية غاشمة، لا تفهم شيئاً إلا الأوامر والقوانين، مهما كانت غير قابلة للتطبيق، فتداهم البيوت ليلاً أو صباحاً، تقبض على المُتهمين مهما كان عمرهم أطفالاً كانوا أو كبار السن، تُعذبهم، وتذيقهم المرار، ويختفوا بالأيام والشهور في أحسن الأحوال، في أسوأها لا يظهروا مرة أخرى أبداً! فكيف يعيش أهل هذه الجزيرة في ظل كل تلك الإختفاءات؟
تلك البداية وعدت بأشياء وأحداث كثيرة، ولكن ركزت الكاتبة على مشاعر البطلة فقط، وبعض المحيطين بها، كتاريخ عائلتها، والجد، وناشرها "ر"، وكُل تلك الأفكار الخاصة بالذاكرة، تلك المُعضلة الفلسفية بشكلاً ما أنه لو أختفى شيئاً من أمامك، فهل يسقط من الذاكرة؟ هل عدم وجود الشيء في الوقت الراهن يعني أن العقل ينساه؟ أو القلب؟ هذا ما وجدت الرواية تدور حوله، ولكن بتمطيط شديد في الأحداث، رغم تعلقي بالأجواء الباردة، وعلاقات الشخصية المُركبة، ولكن أفضل ما أعجبني في الرواية، هو الرواية التي بداخل الرواية، فمهنة البطل هي روائية، لها أعمال عديدة في جزيرة لا يقرأ أهلها، ولكنها تكتب، فكانت تكتب رواية وجدت فيها من تشويق وإثارة ومعنى أكبر مما في الرواية الأساسية نفسها، كنت أترقب الفصول التي تمن علينا الراوية بها من روايتها، وكيف أنني لاحظت بعض التشابهات بين ما تكتبه الراوية، وبين ما تعيشه، فكلتا البطلتين لا يتكلمان، كلتاهما واقفتين مكانهما لا تُحاول حتى الخروج من هذا المأزق، حتى لو حانت الفُرصة لذلك.
"إن كنتُ أبكي بلا سبب، فربما لأن قلبي بلغ حداً من الوهن، حتى ما عاد بإمكاني أن أساعد نفسي!"
ختاماً..
هذه رواية تحمل دفئاً رغم برودة الجو، مليئة بالتفاصيل والنقاشات حول كُنه الذاكرة، فلسفة فريدة من نوعها تحمل سودواية مُحببة للنفس ليست غريبة على أجواء الأدب الياباني عموماً، ولولا الاستطراد الزائد عن الحد في بعض الأحداث، وعدم وجود أحداث تلائم جمال الفكرة الأساسية لكانت لهذه الرواية شأناً أكبر عندي. لكنها وبلا شك تجربة تستحق أن تمر بها.