رغم كون رواية "الخوف" لا تتجاوز ثمانين صفحة، فإني أعدها بحق مدرسة لسبر أغوار الوجود والمثول أمام قوانينه المحكمة المطلقة. من أعظم هذه النواميس وأكثرها تجليا قانون صيرورة الوجود، أي اندثار أنماط له وظهور أنماط أخرى. فالولادة لا تتم إلا في نهاية مسار من الألم الفظيع، ألم يزداد حدة كلما اقتربت النهاية، كما ترافقه إمكانية الحدث المضاد أي الموت، موت أحد الكائنين، وتزداد احتمال تحقق هذه الإمكانية المضادة كلما اقتربت النهاية.
إن الأرض لا تتجدد طاقة الحياة فيها إلا بظهور بعض تجليات اندثار الحياة عليها، إذ تتجدد قوتها المعدنية بعد تحول الغابة التي تربض فوقها إلى رماد، وتتجدد قوتها العضوية بعد اجتياح جيوش الجراد للجيل النباتي الذي يكاد يخنق هذه الأرض ويستنزف طاقة حياتها. من قال أن التطور ليس له ثمن؟ من قال أن انبعاث الحياة معجزة لا يحتاج لأسباب؟ إنما يقول ذلك من لم يعبر قط نفقا من أنفاق المعاناة. يقول ذلك من لم ينصت قط إلى الوجود، إلى نداء الوجود.
"إيرين"، سيدة متزوجة برجل يمتهن المحاماة، لها طفلان، قضت السنوات الثماني الأولى من زواجها في حياة رتيبة وخالية من المصاعب والتحديات المعتادة عند عامة الناس، تقضي معظم اليوم خارج بيتها رفقة أناس من مستواها الإجتماعي الراقي. لم تشرف على تربية طفليها ولا على خدمة زوجها ولا حتى على خدمة نفسها؛ فطاقم من الخدم يتكفل بأداء هذه المهام. فكانت لا تنشغل إلا بالحفلات والاجتماعات والمسارح والملاهي. تصف "إيرين" هذه الحياة بحياة "السعادة المعتدلة" الرتبية والسطحية، إلى حد أن من يعيشون على هذا النمط تغدو بالنسبة إليهم مراقبة أدق تفاصيل مظاهر بعضهم البعض علة وجودهم.
سأمها من هذا النمط من الحياة جعلها مستعدة لركوب أول قطار مغامرة تصادفه، فكان المنعرج الأول ارتباطها بـعازف بيانو إسمه "إدوارد"، معروف في الأوساط البرجوازية المحلية. رغم عدم انجذابها إليه جنسيا ولا فكريا، فقد كانت مدفوعة للارتماء في أحضانه برغبة غامضة لا تتعلق حتما بشخص أو بآخر بقدر ما تتعلق بالنموذج العام لحياتها.
في إحدى الزيارات الأسبوعية إلى منزل عشيقها، وهي تهم بمغادرة المبنى حيث يقطن هذا الأخير، تصادف "إيرين" امرأة دميمة الوجه ضخمة الجسد تدعي أنها عشيقة "إدوارد". رغم إنكار إيرين لاتهام هذه المرأة لها بمحاولة الاستيلاء على عشيقها، فقد دفعها خوفها من الفضيحة إلى إعطاء رشوة لها مقابل سكوتها، إذ استمرت المرأة في ابتزاز إيرين وتهديدها بفضح تفاصيل خيانتها الزوجية. كان هذا الحدث بداية كابوس مرعب كاد أن ينهي حياتها، فكان بحق المنعرج الحاسم الذي سيتغير معه اتجاه حياتها جذريا، وأهم حقيقة ستنكشف لها خلال هذه المحنة، ولنا أيضا كقراء من خلال تتبع حالتها النفسية، هي كونها تجهل ذاتها وأسرتها ومجتمعها، وأيضا كونها خاضعة لقوتين متعارضتين: قوة الإنفعال الشخصي، والقوة الأخلاقية للمجتمع.