رواية : #كل الضوء الذي لا يمكننا رؤيته.
تأليف: #أنثوني دور
يقول المؤلف الموسيقي الفرنسي "كلود ديبوسي" (يجب أن نذكّر أنفسنا باستمرار بأن جمال عمل فني هو شيء سيظل دائمًا غامضًا؛ وهذا يعني أنه لا يمكن للمرء أن يكتشف بالضبط "كيف يتم ذلك" بأي ثمن دعنا نحافظ على هذا العنصر من السحر الغريب في الموسيقى بحكم طبيعتها، من المرجح أن تحتوي الموسيقى السحرية على أي شيء سحري أكثر من أي فن آخر) ينطبق كلام ديبوسي على رواية (أنثوني دور) في غموض هذه الرواية #كل الضوء الذي لا يمكننا رؤيته.
وهذا ما يجعلنا نطرح السؤال:
هل هي رواية؟ شعرٌ حر أم خاطرة؟ سأسميها نثرا موسيقيا، نوتات، إيقاع تتناوب فيه السرعة والزمن، الحقيقة والألم، الظلمة وكل الضوء الذي لم يسعنا إدراكه أو رؤيته، رواية أشبه بلوحة واقعية بكل ما يحمله الواقع من وضوح، حقيقة، جوهر، قبح جميل، من ضوء ساطع لدرجة أننا لا يمكننا رؤيته.
رواية من الرهافة والهشاشة أنك لا تستطع إمساكها، تهرب منك ثم تعود و تتسلل إليك لتنتشر عبر مسامات جلدك، مجبرٌ أنت على إغلاق عينيك والتمتتع بالجمال والقسوة، بالنور والظلمة، بالأثير العابر للزمن يهمس للكون أن اصغ، بعدد دقات قلب ستعد الصفحات ستمائة دقة قلب، برائحة المحيط ستدرك المكان، رواية لا تُقرأ بل تمس، رواية أم لعنة حجر لهب في حضنك يشع فيك لكنه يهلك غيرك.
هل هي رواية تاريخية؟
يقول أحد المؤرخين ( الرواية التاريخية ليست مرآة الحقيقة، وليست إعادة بناء لها، إنها لا تقوم بذلك هي تقدم خطابات أخرى، من خلالها نستطيع أن نبني صوراً أخرى لهذه الحقيقة) إن المتأمل للرواية التاريخية في العقود الأخيرة يدرك أن هناك تحولا أو تمردا إن صح التعبير على القالب الجامد للرواية التاريخية التي تمجد الأبطال والمنتصرين ، فلم يعد مقصورا على طبقة الحكّام أو الطبقة العليا، ولم يعد أيضا مقصورا على مؤرخين متخصصين، وإنما أصبح مشدودا للبسيط والعادي والهامشي حتى، واهتمام الروائي المعاصر بتلك الطبقات المهمشة جعل الجزء التاريخي أو الواقعي المسجل في كتب التاريخ ضئيلا، و يكاد يفقد فاعليته، و ربما هو المطلوب في زمننا، لأننا أصبحنا مثخنون بالتاريخ الثقيل الذي لم يعد يحتمل كتباً أخرى تثقل في أحيان كثير كاهله، و هذا التحول في رأيي ليس جديدا كلياً، إذ المطلع على رواية الحرب والسلم لليو تولستوي يدرك تماما كيف تفطن هذا العبقري لمثل هذا التمرد إن صح التعبير، لذا يعتبر التجديد مطلوبا و مرغوبا لإعادة بعث الرواية التاريخية وذلك من خلال خلق شخصيات غير موجودة في الحقيقة وجعلها أبطالا للرواية لا لشيء إلا لنثبت أن صانع التاريخ ليس المنتصر دائما، أن الإنسانية هي الوحيدة في النهاية من يجب أن تكون بطلة و منتصرة.
لماذا ضوء القمر؟
ترافق طفولة شخصيات الرواية مقطوعة موسيقية فرنسية بعنوان "ضوء القمر " يستمعون إليها عبر أثير الراديو ، في علية بيت الأيتام الأخوان (فرنز) و (يوتا) تُحفظ و تُحفر هذه المقطوعة في ذاكرة اليتيمين، ينامان عليها على سرير أحلام مشترك بعيدا عن بؤس الميتم وبرودته، فهل يحاول قلم (أنتوني دور) في هذه الرواية أن يحاكي البيانو، الكمان أو الناي الحزين؟ و هل يسعى لأن يحاكي موسيقى (ضوء القمر )؟
بتعبير آخر: هل وجد أنتوني دور سعادته أخيراً (عبر مخاض عشر سنوات وهو زمن تأليف الرواية ) وهل حاول التمرد على قالب الرواية التاريخية التي تمجد الأبطال المحاربين المنتصرين على الدوام، وكيف لهم أن لا ينتصروا ماداموا يكتبون التاريخ بأنفسهم!
كانت موسيقى ديبوسي بعنوان (ضوء القمر ) نقطة تحول من الموسيقى الرومانسية التي كانت تهيمن على القرن التاسع عشر، وعندما سُئل عن القاعدة التي اتبعها لتأليف هذه المقطوعة، فاجأ معلميه بالإجابة: “Mon plaisir” (سعادتي).
لوحة فنية أو قطعة موسيقية ما الفرق ! نلاحظ هنا موسيقى أنتوني دور في قوله (فتاة تحمل عصى، فتاة ترتدي فستانا رماديا، فتاة قدتّ من ضباب، توحي تشابكات شعرها وجرأة خطواتها بأنها تنتمي إلى عالم آخر ) كل شيء قابل للترجمة، في الفن تتداخل المعالم والحدود تلغى، الفن وحده هو لغة عالمية، الجمال كونيٌّ لا يُناقش ولا يتفاوض حوله، هو فقط يجمع ويلم الشتات (إنه عمل عقيم بشكل غير معتاد أن تشيد مبانيَ بهية، أن تؤلف موسيقى، أن تنشد الأغاني، أن تطبع كتبا ضخمة عن الطيور في عالم يجتاحه زلزال من اللامبالاة، أي بشر متغطرسين لدينا! لماذا تكلف نفسك عناء تأليف الموسيقى في حين أن صوت الصمت و الريح أعلى بكثير ؟ لماذا تضيئ المصابيح إذا كانت الظلمة ستطفئها حتماً ؟)
في النهاية ما هو الضوء الذي لا يمكننا رؤيته، أو ما هو الضوء الذي نخشى رؤيته، في رواية (أنتوني دور) هو ببساطة الناس الحالمون، البسطاء، الأطفال الطموحون، الفئة الأكثر هشاشة وصلابة في آن معا، الأكثر شبابا، التي تأبى القرارات المصيرية التي يتخذها الغير وتكون هي ضحيتها، كل أبطال الرواية هم شباب طموحون (ماري لور) تتحدى الإعاقة(العمى) بالبصيرة و الشجاعة، (فرنز) تحدى اليتم و مصير الموت تحت أنقاض منجم الفحم وتابع الأثير و الإشارات الكهرومغناطيسية لكنه وقع مع ذلك ضحية، وقصص أخرى مشابهة كثيرة ومستمرة ، هي أشياء طموحات كانت بحجم الرغبة والإدارة أو كانت أكبر من أن يراها المتغطرسون المترفعون عن هذه الإرادة القوية، هذا الجمال القبيح الذي لم يسعهم رؤيته ( ذلك أن شيئا متناهيا في الصغر يمكن أن يكون فائق الجمال يساوي الكثير فقط البشر ذوو الإرادة القوية يمكن أن يترفعوا عن مشاعر من مثل ذلك) فلكل منا حربه فلماذا يقحمنا الآخرون في حروبهم !
ماذا فعلت الحرب بالحالمين
تقول الحرب
تجّمع رجالٌ من أجلي
كما يتجمعُ العثّ حولَ اللهب
و إذا ما احترقتْ أجنحتها
أعرفُ أني لستُ السبب ..