لم أفطنْ كثيراً للإشاراتِ التي تُرسلُها لي الحياةُ، إشاراتٌ غريبةٌ، فجأةً تظهرُ، وبالسرعةِ ذاتِها تختفي، تدهسُ ظِلّي، وأنا أمشي في الشارعِ، فيتعثّرُ بأفكاري، وأقولُ: في المرَّةِ القادمةِ، ينبغي أن أضعَ حجارةً أثقلَ وأكبرَ، حتّى لا تنزلقَ من رأسي، ولا أضطرّ معها إلى رَفْعِ الشارعِ عن الأرضِ، وتضميدِ جراحِهِ. ربّما في هذا الأثناءِ، لا أنتبهُ لهذا التزامنِ بين الدهسةِ والتّعثّر. هذا التوافقُ بينهما، هي ما تقولُهُ الحياةُ لأحدِنا، هي الفجوةُ الصغيرةُ في جدارِ الوقتِ، تنفذُ منها مثلَ تلك الإشاراتِ وكأنّها أشباحٌ. الشّقيُّ مَنْ سَنَّ أصابعَهُ مثلَ مبردٍ، وربَّاها على التقاطِ أصغرِ الأشياءِ، مَنْ تركَ عينَيْهِ تتدحرجان على جُدرانِ أيّامِهِ، ولم يمنعْهَا من الارتطامِ، مَنْ درّبَ رائحتَهُ على النفاذِ إلى بُيُوتِ النملِ دون أن يصيبَها خدشٌ أو ضيقُ تنفُّس. الشّقيّ هو هذا، حين يكمنُ خلفَ الفجوةِ الصغيرةِ، رافعاً قنديلَ تأويلِهِ فوقَ رُؤُوسِ العابرينَ، يتفرّسُ وجهَ كلِّ معنى، قبلَ أن يدخلَ من البابِ الكبيرِ، إلى كلماتِ حياتِهِ. الشّقيّ مثلي الآن عندما أكتبُ هذا الكلامَ، فلا أستطيعُ أن أكسرَ القنديلَ، ولا أن أسدَّ الفجوةَ، ولا أن أدعَ الشارعَ يموتُ من جُرحِهِ. يا اللهُ … يا اللهُ … لماذا أنتَ هكذا، كلّما رميتُ سنّارتي؛ لأصطادَ البحر، وأُخليه من إشاراتي، أرسلتَ لي الحوتَ، ليبتلعَ طعمي ثانية؟!
غيابكِ ترك دراجتهُ الهوائيةَ على البابِ
نبذة عن الكتاب
صدرت عن منشورات المتوسط – إيطاليا، مجموعة شعرية جديدة للشاعر السعودي محمد الحرز، بعنوان "غيابكِ ترك دراجته الهوائية على الباب". في كتابه الجديد يُجرِّدُ الشاعر محمد الحرز المشاعر والأشياء، ليمنحها مساحةَ وجودٍ وصفاتٍ جديدة، كما لو أنّه يخلق عالماً سريالياً بعناصر واقعية، يهدِّمه، ثمَّ يعيد بناءه مرَّة أخرى؛ إلى أن يصل إلى تلك النافذة المضيئة في جدار العالم، المنفتحة على إشاراتٍ ورموز يلتقطها الشاعر بحرفية ليكتب قصيدته. من خلال تلك النافذة أيضاً، تعود الذكريات والمشاهد القديمة وحالات الغياب والانتظار والخيبة والموت. عن تهمة الشعر ولعنته الأبدية كتب محمد الحرز: أمّي لا تعرفُ أنّي شاعر أبي لم يقرأ قصيدةً لي قطّ وإذا ما رأى أحدُ اخوتي حمامةً تفرّ من قفصِ كلماتي؛ ظنّ أنها للجيران. بعد موتي ستعودُ الحمامة إلى القفصِ ذاتِه لأنها سمعتْ أبي يقولُ لأمّي: كان جدُّه شاعراً. في قصائد محمد الحرز نتبعُ قطار السّرد الذي لا يتوقف إلا لكي يأخذ نفساً شعرياً ويمضي، عرباتٌ مليئةٌ بالقصص والرغبات والأحلام المنسية، تميلُ على السكة دون أن تفقد حمولتها، وفي كل محطةٍ يلتقطُ الشاعر المزيد من التفاصيل التي يحتاجها في رحلته الطويلة. وفي بداية قصيدة "قلب الشِّعر" نقرأ: أنا والشِّعْرُ، لا ثالثَ بيننا، في هذه الغرفةِ المعزولةِ عن أعينِ العالم. الشيطانُ الذي لم يجرؤْ أحدٌ على إزعاجِهِ، وهو ينامُ في أرض المَروِيّات، يقطفُ الكلامَ كلّما نضجَ في حُقُولِهَا، يسرجُ منها على خُيُولِهَا السريعة؛ لتذهبَ إلى الرُّؤُوسِ أو الصُّدُورِ، دون أن تَتيهَ في صحراء، أو تتعثَّر بعلامةِ استفهام، أو سُؤالٍ هاربٍ من سُجُونِهِ دون عِلمْ حُرّاسِه. وهو الواقفُ على البابِ الكبيرِ للغواية، يُوزِّعُ عَطَاياهُ على الداخلين والخارجين. لم يُزعجْهُ أحدٌ قطّ ويقلْ له: هناك شيطانٌ آخرُ قد وُلدَ في هذه الغرفةِ، وعليكَ أن تُعدَّ له السلالَ؛ لترميهِ في النهرِ، أو تتركَهُ وحيداً أمام الذئب؛ لئلا ينجوَ بنفسِه. بين استعادةِ التراث والأساطير وما يدوَّن من ملاحظاتٍ يومية عادية؛ أبوابٌ كثيرة تفتح، وإن كانت لغرفةٍ واحدة، ونحن نقرأ قصائد محمد الحرز، ويصعب سدُّها حين يتعلّق الأمر بالحب، والروائح والمدن والمقاهي والخسارات. بينما ونحن كذلك، نتبع ما يضاءُ من عتمة الطريق، وكيف يترك الغيابُ دراجته على الباب، نلمح موتى يتجولون في الشوارع، قبل أن ندخل في غيبوبة طويلة وقد نتحوّل إلى سيارة تعطَّل مُحرِّكها. "غيابك ترك درّاجته الهوائية على الباب" مجموعة شعرية جديدة للشاعر السعودي محمد الحرز، صدرت في 160 صفحة من القطع الوسط، ضمن سلسلة "براءات" التي تصدرها الدار وتنتصر فيها للشعر، والقصة القصيرة، والنصوص، احتفاءً بهذه الأجناس الأدبية. ----------- محمد الحرز: ناقد وشاعر سعودي، مواليد البحرين 1967. صدر له شعراً: "رجل يشبهني" 1999، "أخف من الريش أعمق من الألم" 2002، "أسمال لا تتذكر دم الفريسة" 2009، "سياج أقصر من الرغبات" 2013، "قصيدة مضيئة بمجاز واحد"، "أحمل مسدسي وأتبع الليل" 2015. له مجموعة كتب فكرية ودراسات نقدية، منها: "شعرية الكتابة والجسد"، "القصيدة وتحولات مفهوم الكتابة"، "الحجر والظلال: الشعر والسرد في مختبر القراءة"، "الهوية والذاكرة".التصنيف
عن الطبعة
- نشر سنة 2018
- 122 صفحة
- [ردمك 13] 9788885771529
- منشورات المتوسط
تحميل وقراءة الكتاب على تطبيق أبجد
تحميل الكتاب
20 مشاركة