لا تكتمل مُتعة القراءة إلا بلغة ساحرة.
لهذا فقراءة رواية النبيذة كانت تجربة رائعة في كثير منها، يعود ذلك إلى عذوبة اللغة التي كتبت بها الرواية الكاتبة العراقية إنعام كجه جي. لغة بديعة جمالية بلاغية تدغدغ الروح. تجعل القارئ ينتظر الأحداث ليس رغبةً منه لمعرفة ما ستحمله من مُفاجآت، بل تشوّقًا للاطلاع على إبداع الكاتبة في وصف المشاهد والمشاعر والانفعالات الخفيّة قبل الظاهرة.
وأكاد أجزم بأن جمال اللغة هو أقوى ما الرواية، وهو ما يجعل القارئ يتسامح مع بعض الأخطاء والتناقضات التي قد تُخرّب جودة العمل.
لقراءة المراجعة بشكل مُنسّق مُطعّم بالصوّر - اضغط على الرابط التالي
****
أحببت بشدة رحلة الرواية عبر التاريخ والتي جمعتني بالعراق الحبيب فطاب بي المقام في بغداد الجميلة أبدًا. قرأت تفاصيل كثيرة مُدهشة أعرف قليل منها وكثير كنت أجهله. أسرتني الكاتبة بمعلوماتها الثريّة بتنوّعها السياسي والاجتماعي واللغوي، فجعلتْ من تجربة القراءة رحلة جميلة تمنيّت ألا تنتهي.
لا شك أن إنعام برعت في وصف الشخصيات سواء في رسم ملامحها الرئيسة أو إبراز مبرراتها المُتباينة، أو تجسيد رغباتها المتضاربة. فالشخصيات مكتوبة بعناية لافتة واهتمام ملحوظ. وإن تفاوتت جودة الشخصيات في مراحل الرواية. تاج الملوك ووديان ومنصور.. ثلاث شخصيات ممتازة لتحريك الأحداث. إن قارنا بينهم من حيث الجودة سنجد أن أقلهم منصور وأتقنهم وديان. بينما تتأرج شخصية تاج الملوك بينهما؛ فتطغى عليهما أحيانًا ويخفت بريقها أحيانًا أخرى.
ولأن لكل مِنّا ميزانه الخاص وتقديره المُتفرّد في الإحساس بالعمل الإبداعي. فقد وجدت -حسب رأيي الخاص- أن الكاتبة قد زخرفت شخصية تاج الملوك حدّ البهرجة، فاختلّ منها ميزان الشخصية فأضحى الوصف مُفرطًا عند سعيّها لإظهار شخصية تاج الملوك كشخصية نسائية مُبهرة ساحرة لأعين الرجال جمعاء. وأحب أن أوضّح أن هذه النقطة لا تتعارض مع تفهّمي التام لرؤية الشخصية -حسب منطق الشخصية- فطبيعي أن تكون تاج الملوك الصحافية الفاتنة الجريئة التي صاحبت علية القوم وعاشرت الكثير من الرجال سواء للتمتّع بهم أو لاستغلالهم أو حتى لإذلالهم، طبيعي أن ترى هذه الشخصية نفسها بمنظور نرجسيّ. لهذا أكرّر أن المشكلة ليس في التوصيف وإنما في الزيادة فيه حدّ الغلوّ.
شخصية منصور البادي جاءت مُحكمة وجيّدة، لكنها كانت دومًا أقل وهجًا من الشخصيات النسائية التي هيمنت على الرواية بكل قوة. أعجبتني الشخصية بتناقضاتها وضعفها، وحلمه الذي طارده عُمره كلّه ليكتشف في النهاية أن الزمن يُغيّر كل شيء، وأن ذكرياتنا تخدعنا بأوهامٍ برعت في نسجها داخل عقولنا بتواطئ مِنّا!
ملحوظة: لسبب ما شعرت بإسقاط خفيّ في علاقة منصور البادي وتاج الملوك، خاصة أثناء مراسلاتهما وبوح منصور بعشقه إلى تاج الملوك، وتجاهلها لأكثر ما يكتبه مع إرسال بعض الخطابات ذات الجملة الواحدة أو فقرة واحدة مما كان يثير جنونه. شعرت بتشابه قويّ بين هذه العلاقة وعلاقة عسّان كنفاني وغادة السِمّان!
وديان... أكثر الشخصيات المكتوبة إتقانًا في الرواية. براعة مُدهشة من الكاتبة في تجسيد مشاعرها المُتضاربة والتحوّل التدريجي لمشاعرها والاضطراب الشديد الذي يؤرجحها ما بين أمل الكاذب ويأس مُمكن! قرار وديان في النهاية كان موفقًا بكل تأكيد من الكاتبة التي أظهرت الجانب الرمادي للإنسان بكل دقة. لا يُمكن أن تكره وديان... ستجدد لها مُبررًا لكل فعل تقوم به، لعلّنا نجد فيها شيئًا يُشبهنا!
من المشاهد المؤثرة في الرواية والتي برعت الكاتبة في وصفها مشهد الحفلة التي أقامها الأستاذ وحدثت فيها مأساة وديان. هذا المشهد كُتِبَ بإبداع مُتميّز.
أيضًا مشهد تاج الملوك عند النافورة والذي امتدّ حتى انتهى في الفندق؛ كان مشهدًا غنيًّا جدًا في الوصف الحسّي والمادي نجحت فيه الكاتبة في أن تصف المشاعر الجياشة التي تحيا في مشاعر عقل عجوز بشكل غاية في الروعة.
لكن الرواية على الرغم من جمالها لكن بها عدة سلبيات
تجاهلت الكاتبة تاريخ تاج الملوك في الجاسوسية (العشرين عام الأخيرة بعد تركها لإيران)، وهذا من المفترض هو جزء أصيل من شخصيتها، ولم تشر إليه أبدًا سوى مرتين، أولهما في جملة واحدة في الرواية أنها قامت بعدة عمليات خطيرة في إيران وفرنسا وبعض الدول الأخرى. والثانية في مشهد رفضها لعملية الاغتيال. وهذه سلبية مؤثرة جدًا لأن تجربة الجاسوسية والتعامل مع المخابرات تجربة لا بد أن تلقي أثرها على تاج الملوك، لكننا للأسف لم نر ذلك.
سلبية أخرى وهي أنها عاشت دون أن تؤذي أحدًا بالإضافة إلى كونها رفضت إتمام عملية اغتيال لكون الهدف عربيًا. وهذا يتناقض بشدة مع عملها كجاسوسة لفرنسا قامت بعمليات خطيرة في إيران وغيرها من البلدان، وهي المُجنّدة بسبب براعتها اللغوية العربية والفارسية، أي أن العمليات التي شاركت فيها لا بُد أن تكون قد حدثت في المنطقة العربية والإيرانية.
شعرت بأن هناك نقصًا في بناء العلاقة بين وديان وتاج الملوك، رأيت بأن هذه العلاقة كانت تحتاج إلى بناء أكثر كثافة من أجل إبانة الترابط الذي جمع بينهما في الوقت الحاضر. لكن ماضيهما -كُل على حده- قد استحوذ على المساحة الأكبر من السرد.
جاءت بعض المبررات مزعجة في الرواية، مثل تبريرات مغامرات تاج الملوك مع الرجال، وتبريرات علاقتها بالله، وإصرارها على أن الحُب ليس بخطيئة يُعاقب عليها الرب ما دامت لم تؤذ أحدًا. لم أحب هذه التلميحات في الرواية، وهو أمر يخصّني ولا أستسيغه رغم تفهّمي أن شخصية مثل شخصية تاج الملوك لا بد أنها ستُفكّر بهذا الشكل لتُبرر لنفسها ما فعلته في حياتها، وأيضًا أتفهّم أن هناك بالفعل من يُفكّر بمثل هذه الطريقة، خاصة وأن هناك احتمال كبير أن تكون هذه الشخصية حقيقية بالفعل.
رواية النبيذة للكاتبة العراقية إنعام كجه جي، رواية هادئة عذبة فاتنة. من الصعب ألا ينتشي أي قارئ بلغتها الآسرة.
تقييمي
3 نجوم
أحمد فؤاد
السابع من آذار مارس 2021