هناك من الأفكار التي نقرأها أو نسمعها فنشعر على إثرها أن لها عُمقًا ما داخلنا، وكأننا فكّرنا في تلك الأفكار من قبل، لكن أين؟ لا ندري تحديدًا، فنتجاهل ذلك الشعور ونكمل ما نقرأه أو نسمعه من أفكار، فيتزايد داخلنا شعور مؤكد بأنه لا يمكن أن يكون ذلك مجرد شعور déjà vu – وهم سبق الرؤية. يؤرقنا البحث في ذاكرتنا عن تلك الأفكار التي بالتأكيد عرفناها سابقًأ. وعندما نفلح في أن نتذكر تلك الفكرة، نكتشف وبغرابة أنها لا تتطابق مع الذي نقرأه حينها!
من الغريب أن تكون هناك فكرة ما تحفز ذاكرتك كي تستعيد فكرة أخرى مختلفة عنها، فتتعجب كون الفكرتين ليسوا متشابهتين، لكن مع التأمّل البسيط ستدرك أن الفكرتان مترابطتان بشكل خفي.
هذا ما حدث معي أثناء قراءتي لرواية الصبيّة والسيجارة للكاتب الفرنسي بونوا ديتيرتر. منذ الربع الأول من الرواية وأنا أشعر بأنني قرأت شيء شبيه منها من قبل، هذا الحنق الملازم للبطل الذي لا يستطيع أن يخفي غضبه، هذه الرمزية الفاضحة لمعظم الأفعال التي يأتي بها المجتمع الذي يمارس العنصرية والنفاق بكل امتياز. أين؟ أين قرأت هذا من قبل.
بعد أن انتهيت من الرواية تذكّرت... إنه هولدن كولفيلد!
هولدن كولفيلد هو بطل رواية الحارس في حقل الشوفان، ذلك البطل المراهق الحانق على المجتمع وعلى الجميع بسبب الزيف الذي استشرى في مجتمعه، ولم يعد يرى سوى الأطفال رمزًا للنقاء.
في رواية الصبيّة والسيجارة، يتشابه بطل الرواية مع هولدن في كل شيء تقريبًا من حنق وضيق وغضب من زيف المجتمع، وسخف الحياة الاجتماعية التي تُفرّغ العلاقات من المعاني الحقيقية. بالإضافة إلى إظهار الجانب القبيح من منظمة الرأي العام التي ترسخ تفسيرات محددة لكل تفاعل اجتماعي، وتُشيطن أي تفسير آخر. لكن بطل الرواية هنا يتعارض مع هولدن في نقطة جوهرية... بطل الرواية يكره الأطفال!
رغم أن الرواية الساخرة التي تدخل بنا في عالم أدب المدينة الفاسدة، تحتوي على كثير من الأفكار المختلفة التي حاول فيها الكاتب جمعها في بوتقة واحدة، إلا أنني أكاد أستمع صرخة البطل المسموعة في حروف الرواية.
الصبيّة والسيجارة هي صرخة انسان يمر بأزمة منتصف العمر، سن الأربعون والخمسون. نرى إحباط البطل من استعداد المجتمع للتخلي عنه وعن حقوقه، مقابل حقوق الأطفال. فيتحسّر كيف يمكن أن يُسلب حريته بعد أن اجتاز مرحلة الطفولة التي طُلب منه فيها الالتزام بمبادئ الأخلاق واحترام الكبير ومراعاة شعور الآخرين، وعندما وصل إلى سن الأربعين، وجد أن المجتمع السخيف غير من مفاهيمه التي تربّى عليها. فمثلًا عند ركوب الحافلة لم يعد المجتمع يستنكر جلوس الأطفال في مقاعدهم تاركين كبار السن أو النساء واقفين، بل أصبح المجتمع يستنكر ذلك على من في سنه.
الكاتب سلّط الضوء إلى جزئية هامة جدًا في حياتنا الحالية، وهي الحرية التي تزداد مساحتها للأطفال في هذا العصر، وأصبح الاستماع لنصائح الكبار مجرد خنوع للطفل يُضعف شخصيته. انعكست الآية بمباركة المجتمع الذي سارعت كل الأطراف فيه أن تحصل على زخم التغيير المُبهرج الذي ينادي بحرية القرن الجديد. وما ينقله في الرواية ما هو إلا خوف من تفاقم هذا التغيير.
البطل في الرواية يشعر أيضًا بتخلي المجتمع عنه وازدراءه له، بل ويزعم بأن الانسان في سنه هو سن الكمال وهو السن الوحيد الذي يستطيع فيه المرء أن يستمتع بالحياة بعد أن اكتسب الخرة اللازمة ومازال في حالة صحية جيدة، مرحلة عمرية لا تهوّر فيها ولا طيش شبابي، ولا يأس شيخوخة وبؤس من يستعد للرحيل عن الحياة!
كرواية أدبية... ذكرني أسلوبها بلمحة من أسلوب خوزيه ساراماجو (أسلوب العليم)، وأرى أن رمزيات الكاتب كانت جميلة مثل فكرة السيجارة وكيفية تصوير تأثير الحماقة الجماعية للمجتمع على حياة الأشخاص، وقدرتها على قلب الحقائق التي تكسب تعاطف الآخرين. لكنني أرى أن الكاتب لم يُوفق في الجزء الثاني من الرواية، والتي تداخل في أكثر من خط وأكثر من صورة جعل معالجتها متسرعة حتى وإن كانت فكرتها جيدة.
الترجمة ممتازة وألفاظها سلسلة، وأضيف أنني أحترم المُترجمين الذين يحترمون القُرّاء ويوضحون أسباب اختيار ألفاظًا مُحددة للترجمة، والمعنى الضمني الذي يرغب الكاتب في الإشارة إليه في لغة النص الأصلي. تحيّة لزهير بُوحُولي
أجمل الاقتباسات
" ليس الموت في نظر الأطفال المرضى سوى عبورٍ لطيف لا ملامح له تقريباً، بينما هو بالنسبة إلى كهل في عنفوان العمر هلعٌ على شفا الهاوية وكثافة حنين بلا نهاية"
" أنا أرى أن الرجل الكهل، رجل الأربعين والخمسين، هو أكثر من يستحق المساندة، بسبب الطريقة التي يزدريه بها الجميع. إنه لا يزال يحب الحياة، ولكنه يشعر بأن المنيّة تقترب؛ يظن بما لديه من ملكاتٍ ذهنية، أنه في أعلى درجات الاقتدار. ولكن رئيسه في العمل ما ينفكّ يُفكّر في التخلص منه. في كل مكان، ثمة أشخاص أكثر يفاعة ينتظرون الحلول محلّه. زوجته السابقة تعتبره مزعجًا ثقيل الظل لا يصلح إلا لدفع نفقات الطعام. أبناؤه فلذة كبده، يجدونه متخلفًا تمامًا عن العصر. أما سكرتيرته، فتترصد أدنى ابتسامة جانبية لتتهمه "بالتحرش الجنسي" وتجعله يدفع الثمن... في حياته كل شيء قد أبلغ أوجه وكل شيء بصدد الانهيار. إنني لا أرى رمزًا من رموز المجتمع الحديث أشدّ هشاشة منه.
ملحوظة... الكهل في اللغة العربية هو وصف للمرحلة العمرية من بعد اكتمال فترة الشباب ( الأربعون) وحتى إتمام الستون. أما بعد الستين فهي مرحلة الشيخوخة. ولهذا فإن كهل لا تشير إلى رجل عجوز وإنما إلى مرحلة النضج ( من 40 إلى 50) ولكن هناك لغط سائد عن هذا الوصف بسبب الخطأ الشائع في الخلط اللغوي بين مرحلة الكهولة و مرحلة الشيخوخة في مجتمعاتنا.
الرواية ساخرة وأراها عميقة جدًا في فكرتها... فقط لمن يستطيع أن يرى هذه الفكرة.
تقييمي للرواية 3 من 5
أحمد فؤاد – 6 حزيران يونيو 2019