يدخل الأدباء والمثقفين السجون ثم يخرجوا منها فيقوموا بتوثيق تجربتهم الشخصية توضيحا للظلم الذي تعرضوا له أواستعراضا للمعاناة التي خاضوا غمارها ، مستغلين موهبتهم الأدبية في التوضيح والاستعراض ، وليس هكذا دوستويفسكي الذي يدخل السجن ثم يخرج منه فيقوم بما يجيده على الدوام من سبر لأغوار النفس الانسانية و النفاذ السيكلوجي اليها وهي في ذلك الوضع الغريب وتلك البيئة الفريدة ، فيقوم بتشريح طباع فئة من البشر قادهم حظ عاثر او سلوك منحرف الى فقدان الحرية .
الى الكسندر جورباتشكوف الرجل المثقف شديد الشحوب والنحول والذي اذا حدثته انتبه الى كلامك انتباهاً شديداُ ، وأصغى الى كل قول من أقوالك مهذباُ غاية التهذيب وقد بدا في وجهه التفكير كأنك تقترح عليه مشكلة أو كأنك تريد أن تنتزع منه سراً ، حتى اذا اجاب كان جوابه واضحاُ موجزاً ولكنه يزن كل كلمة من كلماته ، ويبلغ من ذلك ان من يستمع اليه يشعر بالحرج دون أن يعرف سبب هذا الحرج ، ويشعر بشئ من الضيق والبرم ، ويسعده مع ذلك أن تنتهي المحادثة بينهما ، الى ذلك الرجل انما ينسب دوستويفسكي هذه المذكرات التي تتصف بصفاته .
يختلق دوستويفسكي للرجل الوهمي جريمة قتل زوجته ثم ينهي حياته في اشارة لا تخطئ العين دلالتها ليعثر الراوي على مذكراته في دفتر سميك بعض السمك قد ملئت صفحاته بكتابة دقيقة صغيرة تحكي قصة السنين التي قضاها الكسندر في سجن الأشغال الشاقة ويصفها الراوي بانها قصة مفككة مجزأة لا تماسك فيها ولا تكامل تتخللها هنا وهناك حكاية قصيرة او ذكريات رهيبة ينفضها صاحبها نفضاُ يشبه ان يكون تشنجاُ ، وينتزعها من نفسه انتزاعاً يوشك ان يكون اقتطاعاُ ، ثم يتسائل : ترى ألم يكتبها كاتبها في لحظات من الجنون ؟! .
لا يخفى على المرء أنها قصة السنين التي قضاها دوستويفسكي نفسه في سجن الأشغال الشاقة ولكنه يقدم لها بأسلوب بالغ الروعة مختفياُ وراء كل هذا التمويه ليس لغاية التمويه في حد ذاته ولكنه في ظني يقوم باخبارنا ان الشخص الذي قضى هذه السنوات في ذلك المكان لم يعد هو ذاته الشخص الذي يروي هذه القصة فقد ولد كاتبنا من رحم المعاناة خلقاُ جديداٌ واختفى السجين بمحض ارادته (منتحرا ) تاركاُ بعض الذكريات الغير خالية من الطرافة والتي تكشف عن عالم جديد كل الجدة ...عالم مجهول الى ذلك الحين .
من الجحيم تخرج هذه الذكريات لتهز النفوس هزاُ قوياُ حتى وصل الأمر أن دموع ألكسندر الثاني نزلت على صفحات الكتاب وهي حادثة شهيرة أدت في النهاية الى إلغاء العقوبة الجسدية التي كانت تطبق على سجناء روسيا ذات وقت ، و كنت منذ سنوات عديدة قرأت عن هذه الحادثة و فكرت في الفرق في التأثير بين كتاب واحد في زمن روسيا القيصرية تحدث عن عذابات السجون وبين عشرات الكتب التي تنتمي الى ذلك الأ دب في عالمنا العربي حيث لم يكن لها اثر يذكر على طغاتنا ثم تسائلت فيما اذا كان السبب يعود الى موهبة دوستويفسكي مقارنة بكتابنا ام الى رقة مشاعر طاغية روسيا مقارنة بطغاتنا ؟!!
ثمة فكرة أخيرة أحاول ان أستحضرها في ذهني تضمنتها الرواية .... ؟!!
نعم ...أن الانسان حيوان طويل العمر ! وهو كائن قادر على أن يتعود كل شئ فما الانسان إلا حيوان يتعود !!