كل هذا الهراء.. أو كيف تتقن فن محاربة طواحين الهواء وتدمن القضايا الخاسرة.
أو لماذا سيظل محكوما علينا بالتيه الأبدي في متاهة العسكر والإسلاميين حتى تقوم الساعة أو يقضي ربك أمرا كان مفعولا.
هذه الرواية هي أبلغ تعبير عن مأساتنا..مأساتنا في نخبتنا السياسية والثقافية والفكرية، نخبة لم نخترها لكن بلانا القدر بها.
نخبة مصرة على الانفصال عن مجتمعها والتعالي عليه واحتقاره، والاستغراق في قضايا هامشية عبثية والتنظير لها بكل حماس ثم خسارتها بكل جدارة.
نخبة أولوياتها الدفاع عن حق الشذوذ والزنا والإلحاد، والهجوم على المجتمع المتخلف الذي ينبذ هذه القيم السامية.. ثم يتعجبون لضآلة شعبيتهم وعزوف الجماهير عنهم، وانسياقهم خلف العسكر أو الإسلاميين الذين يفهمون طبيعة جماهيرهم ويعرفون كيف يخاطبونهم جيداً، ويتقنون استغلال سقطات خصومهم ووهن أفكارهم وتداعي بدائلهم، تماماً كما تتقن نخبتنا الفشل ولعن الظروف ودهاء الخصوم وجهل المجتمع وتخلفه.
ما يفعله فشير هنا هو وصم شباب الثورة من غير الإسلاميين بكل ما اتهمهم به خصومهم من الفلول والإسلاميين، نفس كلام طلعت زكريا وصفوت حجازى ومن على شاكلتهم، لكن التهم هنا دامغة لأنها صادرة عن ذات المعسكر وإن كانت في صيغة دفاع متهافت.
كل النماذج الثورية التي عرضها تقريباً مشوهة، والسمة الغالبة لها هو الانحلال والفجور، من المسلمة التي تنام مع مسيحي، للمسلمة الأخرى التي تتزوج مسيحي أيضاً - في مصر ولا تسل عن الكيفية فالمؤلف لم يهتم حتى بأن يفسر - للثنائي الشاذ بتفاصيل علاقتهم المقرفة التي يستميت المؤلف لتجميلها واستدرار تعاطفنا معها، والكل تقريباً يمارسون الزنا - حتى في قلب ميدان التحرير أثناء الثورة مصداقا لقول سيء الذكر - والأغلبية ملحدون أو متشككون في أحسن الأحوال.
القصتان الوحيدتان اللتان اندمجت فيهما وأعجبني تناولهما قصة شباب الألتراس التي تنتهي بمذبحة بورسعيد، وقصة الحب على خلفية اعتصام رابعة والتي تنتهي بفضه وتوابعه، الشخصيات في القصتين كانت أقرب للتوازن والتناول أقرب للموضوعية.
أما القصة التي تصلح مثالاً لغباء ليبراليينا وقدرتهم المذهلة على خسارة أكثر القضايا عدالة هي قصة هند وفتحاتها الثلاث، وهند هي ناشطة ثورية يتم الاعتداء عليها بوحشية بعد 30/6 من ضابط وأمناء شرطة ويتم اغتصابها انتقاماً منها ومن أمثالها من النشطاء الذين يأخذون في فتحاتهم الثلاث حسب قول الضابط الموتور لها، فما كان من هند - بعد محاولة فاشلة لاستداراج الضابط والانتقام منه انتهت بوفاة باسم حبيبها (المسيحي) سقوطا من الطابق العاشر- إلا أن دشنت حملة "الحق في الفتحات الثلاث" للتأكيد على حق كل امرأة في أن تأخذ في أي من فتحاتها الثلاث ممن تشاء!
أي عته وأي استخفاف! لا تهم القضية ولا يهم المكسب، المهم هو التنظير، والأيديولولجيا، واستفزاز المجتمع.
* هناك تماهي غير مفهوم بين شخصية حبيب هند في هذه القصة وبين الناشط الراحل باسم صبري في الإسم وطريقة الوفاة ومكانها - سقوطا من الطابق العاشر من شقة في المهندسين - مع اختلاف ديانتيهما، لا أدري ما المقصود به بالضبط، لكن يصعب إغفاله.
نقطة ضعف قاتلة أخرى في الرواية هي تمجيد نموذج فخر الدين - أبو عمر بطل هذه الرواية مع أمل التي تشاركه الفراش والحكايا - كأن الكاتب نسي ما صار إليه فخر الدين على يده في روايته السابقة أبو عمر المصري، حيث حوله في نهايتها لسفاح مختل يقتل الأبرياء الذين يلقيهم حظهم العثر في طريقه بلا غضاضة وبلا مبرر، من مؤذن الجامع الذي أزعجه صوته لسائق التاكسي الذي استفزه لسبب لا أذكره، وغيرهم. يتناسى المؤلف كل هذا ويمضي في تمجيد فخر الدين وتصويره كبطل مضطهد وأمل منتظر، وهو ما كان يتماشى مع صورته المثالية الأولى في رواية مقتل فخر الدين، إلا أنه يتناقض تماماً مع المسخ الذي استحال إليه في آخر رواية أبو عمر المصري.
صدمتي في كل هذا الهراء في عز الدين شكري كمفكر كنت آمل منه الكثير أكثر منه ككاتب، فهو ههنا ككاتب لا زال يمتلك القدرة على سرد حكايات لا بأس بها على سبيل التسلية وتزجية الوقت وتقليب المواجع عن الثورة التي كانت، إلا أن ما افتقدته هو عز الدين المفكر ذي الرؤية والمحلل ثاقب البصيرة الذي وجدته في مقتل فخر الدين وغرفة العناية المركزة وباب الخروج، والذي طالما تابعت لقاءاته وتحليلاته بشغف، قبل أن تختل بوصلته ويلحق بغيره من رموز ثورتنا الضائعة - قناعتي أن الإقامة في الغرب وشلة النشطاء عليها عامل مهم في خلل الأولويات والمعايير هذا - ليتأكد لي للأسف أنه ما من أمل في الخلاص، فحتى لو تخلصنا بمعجزة ما من النظام العسكري الفاشل الجاثم على صدورنا، وتمكننا من الوصول لانتخابات ديمقراطية تحتكم للشعب، فإن مصيرها سيكون كسابقتها لا محالة، منافسة بين الطرفين الوحيدين القادرين على الوصول للجماهير واستمالتها، فإما الإسلاميين وإما العسكر، لا لدهائهم ولا لتغييب الجماهير فقط، ولكن وهو الأهم لغياب النخبة القادرة على صنع بديل واقعي يجتذب الجماهير ويلبي طموحاتهم، بدلاً من نخبنا المتغربة وأجندتهم المختلة وإصرارهم العبثي على فرضها على الجماهير وتلقيمها لهم غصباً. ولله الأمر من قبل ومن بعد.