رام الله و الفراشات في بطن الحوت
مقدمة صغيرة لا بد منها
عندما تغمد سيفك في خاصرة الذاكرة يخرج دوماً شبح ارتدادك على نفسك ، شبحٌ يرقد في ذاكرتي كلما قرأت رواية فلسطينيةً من الداخل في الضفة بالذات ، حيث يعمل العقل الجمعي على هضم الإنسان الفلسطيني من غبار تراثه ، شذراتٌ هنا و هناك من بلادٍ محتلةٍ أفسد الناجون من براثن الأوروبيين بعنفهم بقايا الكتب المقدسة و قصصنا الشعبية المتوارثة . لقد تحطم عقلنا الجمعي على أسطورة السوبرمان المقاوم فنسينا أننا كنا ؛ فكانت لنا الدنيا ، كما تكون لكل عابرِ صدىً ، من صراخ الولادة الأول حتى آخر رمقٍ في كلام الوداع على سرير الموت إن طاب وجوده .
من هذا الطين البشري تكتمل أسطورتنا في الفينيق ، لكننا نتجدد دوماً بشراً لا آلهة ، فنجني من ذلك أَلَمَيْن ؛ ألم الولادة ، و ألم البقاء في الإطار حتى لا نغادر سطوة القوالب الجاهزة ، و قوالب الطهارة الثورية ، و طهارة المجاهدين ، و عبير الجنة و طيبها ، و اختلاط الدم بالتراب .
بالأدب و الأساطير و الشعر و السرد سنكون نحن ، كما نكون ، لا كما يجب أن نكون ، و لن تقف سلطةٌ و لا تنظيمٌ أمام الانفكاك الكامل من سطوة التاريخ ... إلى تاريخٍ جديدٍ سنسير .
الرواية و اللغط
من قرأ الرواية و أعمال عباد الأقدم لا بد أدرك أن المحاور التي تقوم عليها رام الله الجديدة - ما بعد السلطة - هي هدف عباد الأهم و محور الانتقال من السلطة البائسة لتنظيمٍ صغير ثم الانمساخ لدولة عربية صغيرة بكل أنواع المحاذير و الأنظمة الأمنية . إن الضفة الغربية التي بات محورها رام الله تقوم فيها المنظمات الأجنبية غير الحكومية ، و الكتّاب الأجانب القادمين لدراسة هذا المجتمع الجديد ، المجتمع الذي انتقل من قرية رام الله الصغيرة التي نشأت قبل قرابة الأربعة قرون على يد إخوة مسيحيين أربعة يخلدهم تمثال صغير في وسط رام الله ، لتتحول بعد السلطة إلى العاصمة الأمنية و السياحية للضفة و مركز المؤسسات الحكومية و غير الحكومية ، فيها أهم جامعةٍ في الضفة و هي جامعة بير زيت ، و مجتمع الطلاب و العمال .
في رام الله ينزع السؤال عباءته ، ألم نرد أن ندخل عالم الكوزموبوليتاني
في أعماله السابقة ، يعيد عباد في رام الله الشقراء تشكيل الكلمات الأولى لسرد رواية الرسائل و لكن باستعمال الفيسبوك ، ثم يحاول أن يعيد رسم رام الله الاستهلاكية في رواية هاتفٍ عمومي ، و في روايته الأخيرة جريمة في رام الله يحذو حذو الكتاب الكبار و يبحث عن الجوانب المظلمة في زوايا المدينة ليتحدث عنها .
ما يمكن قولة ببساطة عن الرواية أن المشاهد الجنسية و الالفاظ النابية أقل بكثير من أن تكون مستفزةً بمقاييس الكثير من الكتّاب عرباً و أجانب ، و ليست مقحمةً في النص إقحاماً بل تم توظيفها بمكانها ، لكن المنع سياسي بالدرجة الأولى قبل كل شيء ، و حجة الجنس ليست إلا الذريعة المعتادة .
عن الرواية
"يا عزيزي ... أسوأ ما في التذكر أنّه لا يطابق الماضي تماماً ، قد يشبهه إلى حدٍّ بعيد ، إلا أنّه لن يكون مثله تماماً ، التذكر إما أجمل من موضوعه ، أو أقبح منه .
هل تعلم لماذا يعود العشاق إلى بعضهم البعض بعد انفصالهم ؟
لأن تذكرهم لأحبائهم كان أجمل من أحبائهم ، تذكّرهم لحياتهم قبل القطيعة أجمل من حياتهم قبلها ."
من الخارج
الرواية أمامي في غلافها الأسود المخضر البسيط ، العنوان مكتوب بخطوط طباعية و هناك عدة جروحٍ بيضاء هي التصميم الذي غلف الواجهة الأمامية للكتاب ، الغلاف لا يعبر نهائياً عن محتوى الرواية ، و جامدٌ إلى حدٍّ بعيد ، هناك نبذة على الظهر و أيضا في جيبيْ الغلاف الأمامي و الخلفي ؛ حيث نبذةٌ بسيطة عن الروائي مع صورةٍ له . نوعية الورق جيدة و كذلك الطباعة و لكن القص و تلوين الغلاف و اللصق كله رديء ، إلا إن كان متعمداً لإعطاء صورة مميزة قديمة للرواية الصادرة عن دار المتوسط في إيطاليا . الرواية تقع في 237 صفحة و مقسمة إلى ثلاثة أقسام :
رؤوف و فيه 12 فصلاً ، نور و فيه 8 فصول ( لا أعرف سرّ استعمال الخط المائل italic عندما يتحدث نور ( صهيب) ) ، و وسام و فيه 13 فصلاً و هو مختلطٌ تتحدث فيه عدة شخصيات . الرواية مهداةٌ إلى وسام . و في بداية الرواية و نهايتها و في مقدمة كل فصل مرقم مقتطف من خبرٍ مع التاريخ و المصدر ( لم يتسنَ لي التأكد من حقيقة الأخبار ) .
مختصر الرواية
الرواية تبدأ بخبر الجريمة في ( 20 تشرين ثاني 2012 ) ثم تعود لتبدأ الفصول برؤوف ابتداءً بتاريخ ( 13 شباط 2009) ، و رؤوف هذا الذي تبدأ الرواية بقصته ينحدر من أسرةٍ من الطبقة الوسطى الدنيا من الفلاحين من قرى رام الله ، والده ينتمي لأحد التنظيمات و منها يأخذ راتبه ، و اخوه الذي يعمل في الخليج يقوم بإرسال المصروف له ليكمل تعليمه ، رؤوف الذي يسكن في شقة متهالكة مع اثنين آخرين ، يشاهد يد دنيا ( التي نفهم الطريقة التي عرف بها اسمها مع نهاية الرواية و بعد عشرة أيامٍ من الجريمة و هو يشاهد التلفازٍ و بالصدفة ) ، و لو أن هذه اليد سحرته بجمالها و أصابه تلعثمٌ و هو يحاور صاحبتها عندما اكتشف أن ما يفعله بحياته لا يكفي لنفقات الزواج . من هذا الفصل الذي تؤججه الرغبة بالتعرف إلى دنيا و نيل رضاها يتغير رؤوف و يترك الدراسة و يترك صديقي السكن و يستأجر شقة و يعمل بمركز الجامعة البحثي حيث يتعرف لمدير المركز الفاسد و ينتقل بعدها للعمل ساقياً في بار اللوتس عند أبي وليم المهاجر العائد إلى رام الله من أمريكا . خلال الاحداث نتعرف إلى شخص صلاح زميل رؤوف بالسكن ، الانفعالي و الذي يعمل في شركة اتصالاتٍ و يصلي الجمعة ، و يحب أن يشاهد الأفلام الخلاعية بصوتٍ عالٍ ، صلاح هذا عضو في خلية تخطط للقيام بعملياتٍ داخل إسرائيل و تم اعتقاله . هذه النقطة الفاصلة بين رؤوف و أهله عندما يعرفون أنه ترك الجامعة ، في هذا اليوم يترك رؤوف أهله و لا يعود إليهم . و بعدها بفترة يقرر رؤوف أن لا يعود إلى دنيا .
في القسم الثاني المخصص لنور – الذي نعرف لاحقاً أن اسمه صهيب – يتحدث نور بإسهاب عن شخصيته منذ النشأة حتى التعرف إلى رؤوف و كيف هجره و لم يعد ، نور من قريةٍ قرب رام الله أيضاً من أسرةٍ متدينة تميل إلى تنظيمٍ ديني يساهم كل أعضاء الأسرة و زوجاتهم في دعمه ، نور يمضي متحدثاً عن ميوله الجنسية المثلية و علامات الضعف لديه و حدة صوته الصبياني و مشيته البلهاء ، و عن عمله في البار مع رؤوف و حلوله مكان رؤوف في البار عندما ترك العمل و كيف جعل رؤوف منه شخصاً أكثر اتزاناً ، يحدثنا نور عن علاقاته المثلية المتعددة و ضياعه بعد رؤوف ، و علاقته مع آرنو عشيقه الفرنسي لاحقاً . نور تعرف إلى رؤوف عندما عاد رؤوف ليكمل عامه الجامعي الأخير في جامعة بير زيت .
في الفصل الأخير المعنون باسم وسام ، تنحل خطوط الرواية المتوازية و تلتقي ، و مع أن الفصل مختلط للشخصيات الثلاثة الرئيسية في الرواية إلا أن نور له حيّزٌ كبير في الفصل . هنا تحدث الجريمة و يتبين أن الفتاة المقتولة (ربا) التي تعمل في حضانة هي حبيبة وسام الذي يعمل كمحاسب ، قصة عشقٍ عمرها قرابة الست سنوات منذ هجرة أهلها من غزة إلى الضفة ثم السويد ، تنتهي بقتل الفتاة أمام بار اللوتس في جريمةٍ يطغى عليها طابع جرائم الشرف ، و ينتحر وسام بعد ثلاثة شهور و رافضاً العلاج الطبي للكآبة . أما نور فبعد اتهامه بالجريمة لإرضاء السلطات التي لم تتمكن من التعرف إلى القاتل ، تطلق سراحه بعد أن تعامله معاملةً رديئة بسبب ميوله الجنسية . يهرب نور إلى فرنسا مع آرنو الذي ينشر قصته كتحقيقٍ صحافي عن قصة مثليًّ جنسي في الأراضي المحتلة .
( رؤوف الخطيب ) الذي يكتشف دنيا و يفقد اهتمامه بكل الدنيا ، رؤوف الذي لم يعرف الصلاة ، في آخر صفحة من الرواية يتم اعتقاله ضمن خلية تخطط لعمليات في الداخل الإسرائيلي ، مع مقابلة مع صديقه الذي هرب لفرنسا .
حجرٌ قريبٌ من رام الله
الزمن عموماً في الرواية يسير في خطٍّ واحد ، تتراءى الأخبار المقتضبة في بداية كلّ فصل ٍهنا كلوحاتٍ تشير إلى تتابع الأيام و عدم توقف الأحداث فتفجيرات العراق و ثورة مصر و الأسرى و المعتقلون ... إلخ . كلها أمور لا تتوقف عند رام الله وحدها ، لقد باتت هذه المدينة جزءاً من هذا العالم الذي يتصارع فيه مشجعو ريال مدريد و برشلونة بالشوارع .
بناء الرواية جيد و إن بدت قصة رؤوف الأضعف في الرواية ، اسم دنيا الذي يردده طوال الوقت و هو لا يعرفه ، لا مبرر واضح للمثلية الجنسية أو حتى اي تعبير عن مثلية رؤوف السابقة على وضوحها ، لا تسلسل واضح باتجاه اعتقاله لتورطه في خلية نضالية ، الفراغ الذي تركه بين الاعتقال و هجر رؤوف يبدو أنه أكثر من عام لكنّه غير مفهوم ، فنور يتحدث عن شخصٍ أحبه لأكثر من ذلك و لسنوات . شخصية نور تمّ بناؤها على القوالب النمطية لشخصية المثلي الجنسي السلبي ، و تسلسلها في الرواية و فصولها تبدو أكثر إقناعاً من غيرها ، التسلسل واضح و الصلات العائلية واضحة ، ليس هناك مفاجآت في النهاية التي يعيشها نور . وسام و ربا و نهايتهما الحزينة أمر تم سرده بوضوح ، فصل الطبيب النفسي قد يبدو مستهلكاً بعض الشيء لكن النهاية و بعض تفسيرات الفجيعة جميلة إلى حدٍَ كبير ، أفضل بكثير من الفصل الاول الممل الخاص برؤوف .
بالعموم الطريقة التي رتب فيها السرد و استعمال عنصر التشويق و النهايات غير المتوقعة و استخدام الاقتباسات الصحافية ، تدل على أن عباد قد تخلص من الجمود الذي شاب الروايتين السابقتين ( القسم 14) و ( هاتف عمومي ) ، فالتكنيك الروائي هنا افضل بكثير ، و اللغة أكثر مرونة و أحدث ألفاظاً و إن تخلل النص بعض المقاطع التي خرجت من كتابٍ منهجي بصلابتها الحجرية ، إلا أن عباد استطاع أن يحرك الساكن في بحيرة الأحداث في رام الله ، لقد ألقى حجره فيها .
انطباعٌ عام
بعد رام الله الشقراء تبدو جريمة في رام الله أكثر عملٍ روائي متزن لعباد يحيى ، و ما الزوبعة التي أثيرت حول الحديث عن الشذوذ أو استعمال الالفاظ النابية إلا طريقة السلطة باستخدام جدار المنع و الترهيب لتخنق الناس في الداخل و تتابع انشطارها الذاتي إلى سلسلة الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج . وجود الفقر و المثلية و الحب غير الشرعي في مدينة رام الله هو حالة نسبية يرصدها عباد بعين الباحث الاجتماعي ، و تنسيقها في رواية هو الأمر الأصعب .
إنك بعد أن تقفز بين الصفحات كأي قارئ تقف من عبارة جريمة في رام الله موقف المتحير ، فهل الجريمة هي جريمة الشرف ؟ أم أن الأمر لا يتعدى جريمة قتل ؟ أم أن الفقر و قلة الحيلة جريمة تؤدي إلى جرائم بل إنها بوابة التطرف ؟ أم أن الجريمة الحقيقية تكمن في السلطات التي عاملت و تعامل المهمشين الفقراء و المثليين و المعارضين بذات العقلية الانتهازية ؟
مع الأسئلة تترككم الرواية التي تفتح باباً و لا يغلقه سوى الإنكار . فمنطق النعامة يسود البلاد . ظلامات بطن الحوت .